جربتُ الانتحار بسبب “رجل” واليوم أجرّب الحياةَ من أجل رجل.
الرجال نوعان:
الأول مدوّخٌ وجميلٌ والثاني فطرياتٌ سامة يكفي أن تقضم منها قضمةً واحدة حتى تهوي إلى أسفل السافلين، وكل ما يعيش بين الأول والثاني أشباه رجال!
يقول “فرويد” إننا نفقد قيمة حياتنا حينما نضع الموت على رفٍّ جانبي نتجاهله ونحصي الحياة بقيمة ابتعادنا عن الخطر لأننا نربط هذه الحياة وآمالها بشخصٍ قد نفقده في أية لحظة.
الموت ليس غايةً ولا هدفاً لكنه جزءٌ محتم من الحياة بالضرورة وأنا فشلتُ بربط حياتي بأناي لأن الشّعر خلطة محكمة من التناقضات بين الرغبة بجموحٍ كاملٍ نحو حريةٍ مطلقة وتوقفٍ متعمد حرصاً على مشاعر كل الذين أحبهم.
“فرويد” الذي مات (بتوصيةٍ منه شخصياً) بجرعات زائدة من المورفين لم يهرب من الموت بل ذهب إليه راضياً وأنا كذلك.
جربتُ الموتَ ولم أمت، صعدتُ إلى السطح كي ألقي بجسدي فوق بستان والدي المزروع بالبرتقال والليمون الذي كانت رائحته تتسلق إلى أنفي كالخشخاش ولم يردعني عن تلك المحاولة أحد إلا جبل “الشيخ” الذي كان واقفاً بكامل هيبته، ببدلة عرسه البيضاء أمامي!
كان الموقف يشبه مغازلة امرأة جميلة، غازلها غريبٌ فصفعته صفعةً بيضاء كي يغلق فمه ويرتد إلى الوراء، وهذا ما حدث فمنظر الجولان وجبل “الشيخ” المكشوف من منزل والدي كان مشابهاً تماماً: أنا الغريبة الوقحة والطبيعة صفعتي الجميلة التي أيقظتني من مؤامرة السقوط قفزاً هرباً من دموعي لكنها لم تنجح بمنعي عن ابتلاع علبةٍ كاملةٍ من الاسبرين.
الموت حباً لغةٌ لا يفهمها إلا الأغبياء، فهل كان “روميو” غبياً؟
لست أدري.. فالرجال كالعقاقير منهم من يوضع على الجرح فيشفى ومنهم كَسمّ الأفاعي قاتل وخبيث.
على الجسر المعلّق بين الحياة والموت رأيتُني بيضاء جداً وقلبي كان قد اتخذ شكل وردةٍ دمشقيةٍ تلمع بدون سبب وفي الطريق كانت الجبال قد أرخت أكتافها والهضاب نامت على كفوفٍ مشعّة لا أعرف أصحابها، كأن الخليقة لم تبدأ بعد والنباتات شفافة السيقان أوراقها أجنحة تبتسم وزهورها تحمل وجوه كل من أحببت يوماً !
على ظهر نسمةٍ ملونة قابلتُ نبتةً عابرة جسدها جسد نعناعة ووجهها مرتسم بملامح جدي الراحل، كانت تفوح دفئاً وتقترب اليّ رويداً رويداً بمهارة صياد سمك بارع ألقى صنارته، أشعل غليونه وجلس بهدوء صفصافةٍ ينتظر، أحسستُني أذوب وأتلاشى وقبل أن أستيقظ على سريرٍ بارد ظلَّ صوت جدي يردد:
لا تثقي بالذكور، كالنار هم لا يشبعون حتى تأتيهم امرأة وتمطرهم بالدموع…
كان مشواراً يشبه ومضة شمعةٍ في حضرة عاشقين!
لم أمت لكن مشهد أمي وخدودها المصبوغةِ بلون الفزع كان كافياً لأفهم أنني كنتُ على حافة القبر، وبينما كنتُ مشغولةً بتفقد أعضائي كان والدي مشغولاً بالتربيت على كتفي والتعوّذ من الشيطان (هذا الشيطان الذي لا يموت رغم كل الجمار التي يطلقها الملايين عليه)!
تباً..
خانني “رجل” فتعلمتُ بعدها كيف أكون مخلصة.
لم أمت لذا أدركتُ بعدها أن الحياة فنٌ أيضاً.
صرتُ أنفض غبار الغضب كل يومٍ عن صور من قام بالإساءة إليّ يوماً وتحديداً بسبب هؤلاء فهمتُ أن البشر لا يعيشون في مزرعتهم السعيدة وأنهم قادرون على إحياء إنسانٍ آخر بابتسامة حب أو قتلنا دون أن يضعوا مسدساً على جنبهم، يكفي فقط أن يديروا لنا ظهورهم وينسونا !
كل الرجال يريدون حبيباتهم جميلات الشكل إلى آخر العمر، وكل النساء يردن عشّاقهن مخلصين كل العمر والجميع يعلم أن الأمرين ضربٌ من المستحيل!
لماذا لا تبحث المرأة عن جمال “الشكل” لدى “الرجال” عادةً؟
ولماذا لا يبحث “الرجال” عن الاخلاص؟
ألأن “الرجال” يفترضون ان المرأة تفضّل “الستيك بالخضار” كل يوم مثلاً ؟ هذا اذا كانوا كلهم “ستيكات بالخضار” فمنهم من لا يرقى لمستوى “حتّة ممبار” !
(إن كانوا “ستيك بالخضار” او “ممبارية” او “فسيخة” مش هو ده المهم) لأننا نضحي بكل أنواع اللحوم والمانجو والأناناس المنثور أمامنا في سبيل أن نظل نقيات الروح والطلّة في مرايانا نحن.
البارحة مثلاً حلمتُ بأني تفاحة وعشرة “رجال” يقضمونني برقّة، يلمسون برهافة فراشةٍ قبل ان يقبّلوا، يتباركون برفق مؤمنٍ قبل ان يصلوا، يبسملون بالقصائد قبل ان يشربوا، يمرحون كالأطفال قبل أن يسبحوا..
كان كل شيء جميلاً ومتقناً..
القبلة، الخدود المتوردة كشقائق النعمان، قلبي النابض بسرعة “فراري” حمراء لا تتوقف أبداً ..
كل شيء كان مدهشاً، لكن رائحة عفنة كانت تطفو على السطح!
ياااااااه.. لماذا يعذبنا كل شيء نحن النساء؟ حتى فانتازياتنا الحلوة؟؟؟
لست أدري!
راقبتُ الحياة على بُعد ضحكةٍ ودمعة فرأيتُ الأشياء أقلّ فرحاً.
ثمن الإنسان صار أقل من ثمن “فستان سواريه” بكثير، ثمن الإنسان طلقة واحدة، أما أنا فلا أريد أن تكون نهايتي كنهاية “نيلغون مارمارا”..
أريد أن أحلّق لا أن أطير
أن أعشق التفاصيل لا أن أتورط بحبِّ أصحابها
أن أحبل بأحلامي وأجهضها عن طيب خاطر لا رغماً عني
أن أسقط على هواي لا أن يخنقني “رجل”..
لا أريد شيئاً من أحد ولا حتى بيتاً صغيراً في كندا وإن كنت أحسدك عليه يا “فيروز” ، العزلة صديق وفي لا يخون..
واذا تحققت أمنيتي وحالفني الحظ وتقاسمت المقعد الخشبي ذاته مع الذي أحب عند بلوغي الثمانين فسأكون ممنونةً جداً بل سأكون ممنونة اكثر بعد موتي إذا رحمني من “ملل” الجنازات وأسمعني مع الحاضرين بعض الموسيقى ونثرني رماداً ملوناً فوق أحد شواطئ المتوسط لأني ككل النساء أخشى الاماكن الضيقة والمظلمة، أخشى الأماكن الضيقة والمظلمة…
_________________________
كاتبة من فلسطين
الصورة من أعمال المصور السوري أشرف زينة.
زوروا موقعه www.zeinah.net للتعرف أكثر على أعماله الفوتوغرافية المميزة.
*****
خاص بأوكسجين