استحضار الدروس من كونديرا وهرابال
العدد 205 | 17 كانون الثاني 2017
ناثان ماكنمار


كيف تعامل هذان الكاتبان مع الضغوط التي مارستها عليهما حكومة فاشية

في شهر آب من العام 1968 اجتاح الاتحاد السوفييتي تشيكوسلوفاكيا. في روايته “كائن لا تحتمل خفته” وصف ميلان كونديرا مشهد الدبابات وهي تقتحم شوارع براغ. زعيم البلاد في تلك الفترة ألكسندر دوبتشيك سيق عنوة إلى الاتحاد السوفييتي حيث عُنِّف وأُجبَر على توقيع ما سمي حينها بـ”تسوية موسكو”. وقد ساهمت هذه التسوية في إلغاء الكثير من أحكام الإعدام وإنقاذ حياة الكثيرين، كما أوقفت عمليات التهجير الجماعي القسري إلى سيبريا. لكنها على المقلب الآخر جعلت الشعب التشيكي يخضع لسلطة محتله السوفييتي، وفرضت عليه، من ضمن ما فرضت، قيوداً صارمة على السفر والعمل، ولعبت دوراً في قمع الأحزاب المعارضة وتقييد حرية الصحافة. عن هذا يكتب كونديرا: “عند عودته ألقى دوبتشيك خطاباً عبر المذياع. كانت الكلمات بالكاد تخرج من فمه وهو يتلعثم ويلهث مقطوع الأنفاس بعد أن حطمته أيام الاعتقال الستة واستنفدت قواه وكرامته… انتهى العيد إذاً، وبدأ مهرجان الإذلال اليومي.”

قائمة الكتّاب الذين رزحوا تحت نير الاستبداد أو اضطروا إلى أن يقاسوا المنفى وويلاته طويلة جداً في تاريخنا الحديث، ولكل منهم قصة معاناة مختلفة عن الآخر. بين 1968 و1989، وجد الكتّاب الذين على شاكلة ميلان كونديرا وبهوميل هرابال أنفسهم في موقف ترقى صعوبته إلى درجة المحال… كانوا يكتبون ويتحدثون بالتشيكية، لغة يقتصر استخدامها على جزء صغير جداً من أوروبا الوسطى، ولغة وقعت تحت مقصلة حكومة فاشية لا تتوانى عن فعل أي شيء في سبيل فرض إرادتها.

في العام 1967، أي قبل الغزو بعام، كان كونديرا قد نشر أولى رواياته التي حملت عنوان “المزحة”، وقد حققت نجاحاً واسعاً في تشيكوسلوفاكيا، وصدر منها ثلاث طبعات رئيسية بفواصل زمنية قصيرة، وطرحت اسم كونديرا كنجم لامع في فضاء الأدب التشيكي. لكن الرواية ضربت وتراً حساساً آلم الحزب الشيوعي. وكنتيجة لذلك تم حظرها في أعقاب الغزو السوفييتي وأزيلت كل نسخها من رفوف المكتبات، وفُصل كونديرا على أثر ذلك من عمله كأستاذ محاضر في كليّة السينما في أكاديمية براغ.

بالرغم من ذلك استمر كونديرا في التعبير عن أمله بمستقبله كمواطن، وبمستقبل تشيكوسلوفاكيا كوطن. في شهر ديسمبر من العام 1968 نشر مقالاً ذكر فيه أنه يرفض أن يصف الوضع السياسي في بلده بالكارثة الوطنية، وكتب يقول: “ما حدث لم يتوقعه أحد: تمكنت سياسة جديدة من الثبات وسط كل هذا الصراع المروع. تقهقرت نعم، لكنها لم تنهار ولم تسقط.” يعارض كونديرا فكرة وجود قيود رسّخت حضورها بصورة واضحة. “لم تُعد خلق الدولة البوليسية، ولم تفرض قيوداً عقائدية على الحياة الفكرية، ولم تنكر ذاتها، ولم تخن معتقداتها، ولم تتخلَّ عن شعبها… هناك أمل كبير بالمستقبل، ولا أتحدث هنا عن مستقبل بعيد، بل عن غد قريب.”

لكن في العام 1975، استسلم كونديرا المتفائل! عاجزاً عن نشر أعماله وعاطلاً عن العمل، اضطر كونديرا إلى الهرب من تشيكوسلوفاكيا قاصداً فرنسا حيث كتب روايتيه الأكثر شهرة وانخراطاً في السياسة، “كائن لا تحتمل خفته” و”كتاب الضحك والنسيان”. لكن لم يجد هذان الكتابان طريقهما إلى النشر في تشيكوسلوفاكيا. هكذا فجأة استأسر كونديرا بانتباه العالم كله، ما عدا ذلك الجزء من العالم الذي يحكي عنه ويمثّل شعبه. حتى في الحقبة التي أعقبت فترة الهيمنة السوفييتية، لم يتم تقبّل كونديرا في وطنه، وكان ذلك في جزء كبير منه لأن الكثيرين من أبناء شعبه اعتبروه خائناً. كتبت الباحثة الأدبية هانا بيتشوفا: كان قليلاً ما يظهر في العلن، ونادراً ما يجري مقابلات. وكان يقوم بزيارات إلى بلده الأم وهو متنكر (كأن يضع شارباً مستعاراً أو شيء من هذا القبيل)، وقوبلت أعماله في أفضل الأحوال بفتور.” كتابه الأشهر على صعيد العالم “كائن لا تحتمل خفته” لم يُنشر في جمهورية التشيك (تشيكوسلوفاكيا سابقاً) إلا في العام 2006، أي بعد سقوط النظام الشيوعي بـ17 عاماً.

 

* * * *

 

بهوميل هرابال، ابن بلد كونديرا ومعاصره، ابتعد عن السياسة وغنى لها. كان يتبع أسلوباً في الرواية يعرف باسم “الثرثرة” أو “النهر الكلامي المتدفق” الذي يتفادى خلق أي انطباع يضعه تحت شبهة النقد السياسي. يمكن النظر إلى هذا الأسلوب على أنه نوع من الشرود الأدبي المديد الذي يتدفق ويمضي أبعد وأبعد. يصف هرابال عمه بأنه ثرثار، ويقول عنه إنه نبع لا ينضب من القصص “جلس إلى الطاولة هناك وحدق في السقف ورأى ما كان يتحدث عنه فيه.” 

تدور روايات هرابال وقصصه القصيرة حول ذلك العامل المتحدر من الريف الذي يعيش حياته يوماً بيوم، ويهتم بمتعة الأكل والشرب، ويقضي الحياة باحثاً عن الحب والسعادة، ولا يعنيه ما يحدث في عالم السياسة وما يدور في أروقة الدولة. كتابه “قطارات مراقبة جيداً” على سبيل المثال هو عبارة عن شرود كوميدي تدور أحداثه حول عمال السكك الحديدية. أما “دروس رقص لكبار السن” فيروى بأسلوب مناجاة الذات لراوٍ سكران يحاول أن يثير إعجاب مجموعة من النساء يأخذن حمام شمس.

لكن شخصيات هرابال لم تزل تعيش في تشيكوسلوفاكيا، ولم تستطع أن تتفادى كل عبثيات أوروبا القرن العشرين ونفاقها، هذا بالرغم من أن النازيين كانوا يظهرون في أعماله بصورة أكبر من الشيوعيين.

وكما عبّر آدم ثيرويل عن ذلك بقوله: “لطالما كان التاريخ الذي كانت كتب هرابال تحاول الهروب منه وطمسه مبثوثاً فيها – ونتحدث هنا عن التحولات على صعيد التحالفات والاصطفافات السياسية. ما وراء الانضباط الذي يتميز به أسلوبه تجثم دائماً الحياة السياسية في براغ.” ربما استطاع هرابال أن يحافظ على موطئ قدم له في تشيكوسلوفاكيا، لكن الضريبة النفسية والإبداعية التي تكبدها كانت باهظة. “لـ15 عاماً تقريباً مرّ هرابال بفترات مختلفة حُظِرت خلالها أعماله من قبل الحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي.” كتبت ميغان فوربس. “لكن في العام 1975 قام بإجراء مقابلة أطلق خلالها تصريحات سياسية تصالحية كان لها ارتداداتها السلبية بين الأوساط المعارضة، لكنها أتاحت له في الوقت نفسه نشر أعماله مرة أخرى.” كنتيجة لذلك قامت الجماعات المعارضة بحرق كتبه في الشوارع.

“يسأل كبار الكتّاب في أوروبا الوسطى أنفسهم: ما الذي يمكن للإنسان أن يفعله في عالم تحول كله إلى فخ؟” هذا ما كتبه كونديرا في “فن الرواية” الصادر في العام 1986. في جمهورية التشيك – تشيكوسلوفاكيا – الإمبراطورية الهنغارية النمساوية، تعود هذه الفكرة في أصلها إلى فرانز كافكا، اليهودي المتحدث باللغة الألمانية الذي عاش طوال حياته في براغ، وغالباً ما كان مسكوناً بأسئلة مشابهة. تحكي أحداث “المحاكمة” عن رجل يتم اعتقاله لأسباب لا يأتي معتقلوه على ذكرها. وبعدها يبدأ غريغور سامسا، في رواية المسخ أو التحول، بالزحف على بطنه.

نرى آثاراً واضحة للقبضة الخانقة للنظام السوفييتي في إصدارات كتب هرابال الخاضعة للرقابة بعد الغزو. يشير جوزيف شفورتسكي إلى التعديل الذي أجري على إحدى مقاطع روايته “ملايين المهرج”، وهو المقطع الذي تنفجر فيه الشخصية الرئيسية وتصل إلى الذروة.

في الإصدار الأصلي الذي تمت استعادته الآن نقرأ:

“غادر والدي المكتب، وكان هذا ما ينتظره رئيس العمال الذي أمسك بكلا المصباحين مع زجاجتيهما الخضراوين اللتين تحيطان بهما ورماهما من النافذة ليسقطا على كومة من سقط المتاع والخردة ما أدى إلى تحطم أسطوانتي المصباحين مع الزجاجتين، وما كان من والدي إلا أن أمسك برأسه الذي كانت تعصف في داخله أصوات الانهيار وكأن دماغه قد تحطم. “الحقبة الجديدة تبدأ هنا أيضاً،” قال رئيس العمال، ومضى عائداً إلى مكتبه.”

أما في النسخة الخاضعة للرقابة التي صدرت في ذلك الوقت فنقرأ التالي:

“طيب، ما رأيكم يا رفاق؟ هل نتقبل ذلك برحابة صدر؟ خذوا هذه المصابيح واعتبروها تذكارات من أوقات قديمة كانت طيبة معكم.”

هذه لم تكن الدولة الشيوعية المتسامحة التي كان كونديرا يتخيلها ويأمل بها.

تدور أحداث أهم الكتب التي ألفها هرابال “عزلة صاخبة جداً” حول شخص يعمل في رص ورق الكتب. “خمسة وثلاثون عاماً وأنا أرص الأوراق التالفة وأعجن الكتب وألطخ نفسي بالأحرف،” يشرح راوي القصة. “رصصت ما يزيد عن ثلاثة أطنان من الورق خلال هذه السنوات.”أما أشد الأمور المنافية للمنطق التي تمتلئ بها هذه القصة فهي أن الراوي يجد الكثير من المتعة في عمله هذا. وعندما وضع التطور آلة ضخمة لرص الأوراق في طريقه هددت بجعل عمله دقة قديمة وشيء زائد عن اللزوم، التفت إلى عمله بعزم أكبر وعمل على زيادة انتاجه بنسبة 50%. وعن هذا يقول ثيرويل: “هذا كان المنطلق الأخلاقي لهروب هرابال من عالم السياسة… السخرية المطلقة والتهكم الصِرف.”

تلك السخرية كانت أمراً لا مفر منه لهرابال ليتمكن من الكتابة والنشر في تشيكوسلوفاكيا الخاضعة للسيطرة السوفييتية، لكنها قدمت له مساعدة جمة. مثل معظم كتب هرابال حتى العام 1989، “عزلة صاخبة جداً” كان متوفراً خارج البلاد في الغالب. أما في تشيكوسلوفاكيا فلم يكن في الإمكان نشره إلا عبر ساميزدات، وهي عبارة عن منظمة سرية للتوزيع والنشر نشطت في أوروبا الشيوعية وكانت تصدر عادة بضع عشرات من النسخ لكل كتاب تضطلع بنشره. في النهاية امتثل هرابال إلى رغبة السلطة ورضح لها إلى حد بعيد ابتعد معه عن نهج الكثير من نظرائه، لكن ذلك لم يكن بذي أهمية كبيرة حينها.

 

* * * *

 

“وصل ميريك في النهاية إلى حالة أصبح فيها أكثر شبهاً بأصدقائه المتحفظين.” كتب كونديرا في “كتاب الضحك والنسيان” مستحضراً زمناً لم يكن الغزو فيه قد حدث بعد. “صحيح أن الدستور كان يكفل حرية التعبير، لكن القانون كان يعاقب كل من يتناول السلطة بسوء. من يستطيع أن يعرف إذاً متى ستقفز السلطة وتبدأ بالصراخ قائلة إن هذه الكلمة أو تلك كانت مسيئة لها؟”

من النجاحات المهمة التي حققها النظام السوفييتي في هيمنته على تشيكوسلوفاكيا هو تعميم ظاهرة الخوف، وجعل الشعب التشيكي يرتاب ببعضه البعض. كان كونديرا مكروهاً جداً في بلده الأم، وفي العام 2008 تم اتهامه بشكل مريب بأنه عمل في السابق مع الشرطة الشيوعية. وفي آخر أيامه، بدأ هرابال ينظر إلى نفسه كشخص جبان، فما كان منه في عمر الـ82 إلا أن قفز من نافذة الدور الخامس في المستشفى ليسقط قتيلاً.

من المهم الاحتفاء بتاريخ هؤلاء الكتاب ومنحهم ما يستحقونه من التقدير– تمت استعادة كتبهم بنسخها الأصلية وهي متوفرة الآن، ويمكن لمن يريد أن يقرأها متى يشاء – لكن المهم هنا هو توثيق ما حدث مع هؤلاء الكتّاب في الوقت الذي كانوا يخضعون فيه لسلطات فاشية. تاريخ تشيكوسلوفاكيا في العهد السوفييتي فيه عدد من الكتّاب والفنانين الذين استطاعوا أن يصمدوا في وجه السياسات القمعية وأن يواصلوا الإبداع رغم كل الظروف، لكن إلى جانب هؤلاء القلة كانت هناك أغلبية عظمى من الذين لم يتمكنوا من ذلك، وتم نفيهم إلى الريف وأجبروا على العمل في المطاحن والمصانع وتم إسكاتهم إلى الأبد.

نجاة الكاتب في ظل سلطة لا يمكن التنبؤ بما يمكن أن تفعله بات من المخاوف الجدية التي تؤرق المجتمعات حتى في يومنا هذا. كتبت مؤخراً الروائية إليف شافاك مقالاً مهماً عن كمّ أفواه الكتّاب في تركيا. “نجد أنفسنا محتجزين في زنزانات ضيقة تفصل بينها جدران زجاجية،” تقول. “حتى أواصر الصداقة تحطمت.” وعلى صعيد أكثر رعباً ودموية، يرى العالم ما يحدث اليوم في مدينة حلب السورية حيث الناشطون يختفون عن صفحات تويتر في هذه البقعة من العالم التي تشهد صراعاً وحشياً يذهب المدنيون ضحية له.

أصوات نواقيس الخطر ترتفع الآن في الولايات المتحدة أيضاً، حيث يهدد رئيسنا المنتخب مناهضيه ومنافسيه، ويقوم بترهيب الأقليات والمهاجرين، ويحذّر بأنه سيعدل قوانين القدح والذم بحيث يصبح بالإمكان “مقاضاة الصحافيين كما لم يحدث من قبل.” والأسبوع المنصرم حمل لنا مقاربة مؤلمة بين ما حدث في انتخابات الرئاسة الأمريكية للعام 2016 وغزو تشيكوسلوفاكيا في العام 1968، وبطلها المشترك هو التدخل الروسي. لم نرَ الدبابات الروسية تقتحم شوارعنا، لكن القرصنة الإلكترونية والتلاعب بالانتخابات تبدو وكأنها رجع صدى ذلك في القرن الواحد والعشرين.

تبدو الصورة وكأنها لوحة هرابالية في عبثيتها، والواقع أقرب ما يكون إلى الكوميديا السوداء. ومثل كونديرا العام 1968 يمكننا أن نتمسك بذيول الأمل الآن، وأن نتفاءل بمستقبل أفضل… مستقبل لن ننتظره طويلاً. ولكن علينا أن نضع في اعتبارنا أيضاً أن المستقبل المشرق الذي تفاءل كونديرا بأنه لن ينتظره طويلاً في ذلك الوقت لم يأتِ، كما لم يتحقق ذلك أيضاً لهرابال على الرغم من رضوخه الطوعي لرغبات السلطة والامتثال لأوامرها.  

*****

خاص بأوكسجين