تلك الليلة تكلمنا سبع ساعات على الهاتف.شركات الاتصالات ليست سيئة على الدوام. خلل في الماشينة الرأسمالية، خلل في خط الهاتف، جعلني خارج نطاق المحاسبة. مكالمات دولية بالساعات ولا دينار ناقص. ألف كيلومتر بيننا،لكن الطقس واحد، حرٌ لا يطاق طيلة الليل. قمنا بجرد لأرشيف علاقتنا الافتراضية. تحدثنا عن الثورة. سمّتها “انتفاض” ! بدت يائسة. صوت مبحوح من دخان السجائر، باردة، حيادية. تكلّمت عن والدها: مرضه، عن كذبة بيضاء أخبرته بها في آخر أيامه جعلته يفرح… مطرٌ… مطرٌ. أشعلت الجسد المريض فرحة طفولية. يائسة من الوضع أنا ! من المساجد. من الرعاع أصحاب اللحى السائرة في طريق النمو. نسيت أن أقتبس لها من “1984” أورويل : ‘لن يثوروا حتى يعوا. و لن يعوا حتى يثوروا’. و في وسط الكلام قالت لي أنها لم تعد تؤمن بالله ! صديقي المصري، خلف شاشة الحاسوب قال إنه يائس أيضًا و لكنه رأى الله في محمد محمود وقصر العيني. رأى الله… ورأى الشيطان في وجوههم. فاوست اُس ملايين البشر. لم يعُد متأكدًا من شيء. الآلام تتربص به. كنتُ أبلهًا و بهلولًا. أن تولد في الجزائر يعني ألف عام وعام من الحنين والعزلة. يعني هبلٌ أكثر من الهم على القلب. مستشفى مجانين مفتوح على الشارع و الكل فرحان بهبله.
طلع الفجر على الساعة السادسة و لا دينار ناقص. قرأت عليها ما قرأه لينين على الخلق ذات أكتوبر عام 1917 ! فرحت. قاطعتها قائلاً: تصوري فرحة الجماهير يومها؟ تحمست ثم انطفأت. قبل ذلك بأشهر قلت لها: أتعلمين أن الشيوعيات لايحلقن فروجهن؟ قالت لي فيما معناه : أنت غبي. غبي أنا. أنا غبي. غبي أنا. أنا غبي. وضحكت. تلك الليلة كانت ملأى بالتفاصيل. حكت عن المكتبات العامة وعن كاتب مشهور كنت قد أقنعتها بأنه فاشل. عن نشوتها عندما تسير في شارع و يفوح عطرها فيه.
التقينا ! ذات ظهيرة حارقة. كانت هنالك مظاهرة للسلفيين على الرصيف المقابل. كانت قصيرة. ضعيفة البنية و سمراء.طوال الطريق الى المقهى كنت أشعر بمؤخرتها الصغيرة تتراقص. لا شيء يذكر عدا إهداء على إحدى الروايات. كتبت مقتبسًا عن قابِض الحافلة التي جئت فيها: لا تأخذي الفيلم كله… خذي أهم اللقطات. لم تعجبها الرواية. دخلنا مسرحا حيث كانت هنالك ندوة حول رواية سيئة.سيئة.سيئة.سيئة.سيئة.سيئة.سيئة إلى اللانهاية و ما بعدها. حبست رغبتي في طرحها على الكراسي القرمزية اللون و تجريدها مما كانت تلبسه. شعور ما كان يقول لي بأنها هشّة (ستغضب عند قراءة هذه الصفة ) ككوب فلان-كراميل: قشرة صلبة مقرمشة و سائل حلو أسمر هلامي. أردت أن أشرح لها أن الحرية و النضال و الرفاق و الكتب الحمراء و الديالكتيك و السياسة : هبلْ. أردت أن أقتبس عن دكتور مصري سبعيني يجلس في أتيليه القاهرة عام 97 ينفث الدخان و يقول: “تفعلون ما تفعلون لأنكم شباب. الشباب لا بد أن يكافح و إلا ظن الحياة بلا معنى، سيشعر بالضياع ما لم يفعل. في البلاد التي لا تحتاج الى كفاح، في السويد و النرويج مثلًا، يقتل الشباب أنفسهم. ينتحرون”. أو أقتبس عن فالديمير بوتين و أوفر المشقة: “من يريد عودة الشيوعية فهو بلا عقل. لكن من لا يحن لها فهو بلا قلب”.
المهم أن تعيشي. أن تعزفي لا أن تحمي غيتارك. أن تولد في الجزائر و تتربى في التسعينيات ستعرف أنه لا وقت للحراسة. اعزف و حارب بغيتارك في نفس الوقت. لا رمزية هنا: أضرب بغيتارك على الرؤوس حتى تتهشم أو يتهشم.الأوتار تصلح للخنق. ستدمى أصابعك. لا بأس… ضريبة عزفها. اللّحن سيبقى في صدرك والجروح ستطيب. حقيقة واحدة كانت يمكن أن تغير الحكاية لكني لحسن الحظ أفتقد فضيلة الندم. يقول تيمون في فيلم Lion King: اذا ادار لك العالم ظهره، فأدر له ظهرك. لا شيء يهم. “نأتي العالم و أشياء جوهرية سبقتنا. نرحل عن العالم و أشياء جوهرية ستفوتنا”. لا بأس أن أموت ! لكن فقط لو يموت العالم معي.
_________________________________
كاتب من الجزائر
الصورة من فيلم بانكسي “الخروج من متجر الهدايا” الذي يمكن القراءة عنه في زاوية “كتاب”.
*****
خاص بأوكسجين