إن كنتُ أحكي حكايات فذلك لأنني أُصغي
العدد 207 | 01 آذار 2017
جون برجر


تقرأون فيما يلي واحداً من آخر حوارات المفكر والكاتب جون برجر الذي توفي في 2 يناير/ كانون الثاني 2017 وقد أجرت هذا الحوار كيت كيلاواي ونشر في “الأوبزرفر” في 30/ 10/ 2016:

   في الخامس من شهر تشرين الثاني (نوفمبر) 2016 سوف يُكمل جون برجر عامه التسعين. في طريق سفري إلى باريس لأقابله أحمل ملء حقيبة من الكتب، فقد نُشرت مؤخراً دراسات في تاريخ الفن “صور شخصية”، وتزامناً مع بلوغه سن التسعين نُشِر كتابه “مناظر طبيعية” (وهو منتخبات انتقاها بحكمة توم أوفرتن لصالح دار فرسو) وهي سلسلة رائعة من المقابلات مع مفكرين يكنُّ لهم برجر كل الاحترام، بدءاً ببريشت ووالتر بنجامين وانتهاءً بروزا لوكسمبرغ. وكانت دار بنغوين قد نشرت تشكيلة بديعة من عمل أقرب عهداً هو “مُسامرات”، وكتاب “برطمان من الأزهار البريّة: مقالات احتفاءً بجون برجر” (ويتضمن كلمات ثناء من آلي سميث، وسالي بوتر وجولي كريستي) سوف يصدر قريباً عن دار زد.

    يستمر التقدير في فيلم سينمائي عنوانه “الفصول في كوينسي: أربع صور شخصية لجون برجر” صُوِّرَ خلال أواخر ثمانينيات عمره – وهو قُصاصات من أحاديث رسمية ونقاشات سياسية، مع كلمات شكر من الممثلة تيلدا سوينتون، والكاتب والمنتج كولن ماكيب وآخرين. وكان قد صُوِّر في قرية جبلية في أوت سافوا، في جبال الألب الفرنسية، حيث عاش جون برجر لأكثر من أربعين عاماً. هذا الحشد من المُعجبين يُبينون ليس فقط أنَّ الرجل محبوب إلى أقصى حد، بل الدَين الفكري خلف الرغبة في شكره. وقد وصفت سوزان سونتاغ برجر، الناقد، والروائي، والشاعر، والكاتب المسرحي، والفنان، والمُعلِّق – وفوق ذلك كله حاكي الحكايات – بأنه لا نظير له في مقدرته على جعل “الانتباه إلى العالم الحسّي “يُلبي” حاجات الضمير”. وكتابه “أساليب الرؤية” وسلسلة BBC التلفزيونية عام 1972 المأخوذة منه، غيّرتْ أسلوب استجابة جيلَين على الأقلّ للفن. وكتاباته منذ ذلك الحين – خاصة حول الهجرة – غيّرت من الأسلوب الذي يرى به معظمنا العالم .

   اليوم يُقيم برجر في أنتوني، وهو ضاحية تبعد سبعة أميال عن باريس، حيث يعيش مع صديقته القديمة نيلا بيلسكي، وهي ممثلة وكاتبة كبرت في ظل حكم الاتحاد السوفييتي. فتحا الباب معاً، وفي أثناء جلوسنا على مائدة الغداء، تلتفتُ نحوي وتقول: “ما عليك أنْ تفهمه عن جون هو أنه ليس مهتماً بالتكلُّم عن نفسه”. وفي حين أنَّ هدير الاستحسان يتصاعد على هذا الجانب من القنال، إلا أنه، على عكس المتوقّع، لا يكاد يعي وجود أي ضجيج. وعندما قدَّمت له البروفة الطباعية لكتاب “برطمان من الأزهار البريّة” قلَّبها بين يديه بدهشة مبتهجة، وهتف “هذه اللوحة من رسم ميلينا، حفيدتي”، وهو يتفحّص الأزهار بسيقانها الطويلة والنحيلة التي على الغلاف. وينهض عن الطاولة ومن ثم يعود مع صورة شخصية مرسومة بالزيت بحجم صفيحة ورق قياس A4، وتمثّل وجهاً غير مُحدَّد العمر ومع ذلك كانت ميلينا لا تتجاوز الثالثة عشرة. (برجر لديه ثلاثة أولاد – كاتيا وجيكوب وإيف – وخمسة أحفاد) ويضعها إلى جوارنا وننظر إليها، وكأنها تنضم إلينا على مائدة الطعام. يقول برجر “إذا سألتني مَنْ أنا فأود أنْ أرى نفسي من خلال عينيها، من طريقتها في النظر إليّ”. إنَّ نظرتها مُسدَّدة بصورة مُربكة. نحن متفقون على أنها تبدو كأنها تعرف أكثر مما تعلم أو ترى.

   هناك شيئان رائعان في هذه اللحظة. الأولى تذكُّر أنَّ برجر مهتم كما كان دائماً بأساليب الرؤية: أنه لا زال قادراً على أنْ يسمح لنفسه بالخطأ، أنْ يُحوّل الإدراك إلى تجربة خارج الجسد. والثانية، من المُميَّز أنه راغب بشدة في أنْ يُناصر الفنانة الصغيرة التي رسمت حفيدته. يقول “أحضِر لي قطعة من الكرتون من تلك الطاولة الجانبية”. ويكتب بخط يده غير الثابتة تماماً الدائري الجذّاب: جولز لينغلين. وأعلن، وهو يُعيد إليّ قطعة الورق، “ذات يوم سوف يحظى بشهرة واسعة”

   على الرغم من أمنيته بأنْ يُرى من خلال عينيّ حفيدته، إلا أنَّ ما أنظر إليه الآن هو برجر نفسه. ضئيل الحجم، لكنَّ وجهه واسع – وسيم الملامح، أزرق العينين وشعره أبيض كثيفاً. مؤخراً شاهدت فيلم “أساليب الرؤية” عبر اليو تيوب، وشيء خلاّب كيف أنَّ الأقسام الأربعة لا زالت آسرة. لم يكن لدى برجر أي وقت للأبراج العاجيّة – أساليبه في الرؤية كانت راديكالية. قبل أربعٍ وأربعين عاماً كان شخصية جذّابة، ينظر إلى آلة التصوير بعينين ثاقبتين وتجهّم دائم، وكأنه على الدوام على حافة الخلاف مع نفسه. والنظرة مناسبة لأنَّ ما فعله المسلسل هو أنه جعل الناس تعيد التفكير. وهو أبداً لم يتفادَ الصعوبة: فقد وصف، على سبيل المثال، كيف أنَّ وظيفة النساء في اللوحات التقليدية هو “إشباع الشهية، لا أنْ يكون لديهن شهيتهن الخاصة”. وخلافاً لكتاب كينيث كلارك الأرستقراطي “حضارة” (1969)، لم يكن كتاب “أساليب الرؤية” متغطرساً. ففي كل قسم كان برجر يظهر بالقميص العادي نفسه بما عليه من تصميم هندسي بنيّ اللون على خلفية بلون الكريما. صوته صاف وتوكيديّ ويتجنب حرف الراء. وكانت كلماته الأخيرة في المسلسل هي: “إنَّ ما عرضته، وما قلته … يجب أنْ تحكموا عليه رغماً عن تجاربكم”. وهذا ما يطلبه منا كل ما كتبه .

   بالنسبة إليّ، سوف يبقى برجر دائماً هو مؤلف “إلى حفل الزفاف” – الرواية المؤثّرة، الإيجابية بصورة غير متوقّعة في موقفها من مرض الأيدز، وفيها تتبع الحقيقة الأدبَ لأنه اكتشفَ بعد أنْ باشر الكتابة أنَّ زوجة ابنه تحمل جرثومة HIV. وعندما كنتُ عضواً في لجنة تحكيم جائزة بوكر عام 1995، كانت الرواية التي أشدّ ما رغبتُ في أنْ تفوز، من بين 141 متباري – على الرغم من أنها ربما خُلِقَتْ لحياة أكثر هدوءاً ولم تفُز. وبخطوة شهيرة قام برجر بوهب نصف قيمة جائزة بوكر الماليّة إلى جماعة الفهود السود في عام 1972 عندما ضمنت “G” روايته التي تنتمي إلى ما بعد الحداثة الجائزة وتدور حول بلوغ رجل إيطالي عاشق للنساء مرحلة النضج السياسي. وبما أنه كان طوال حياته ماركسياً (على الرغم من أنه لم يصبح أبداً عضواً في الحزب الشيوعي) اعترض على صِلة بوكر ماكونل التاريخية بوثيقة العمل[1] في منطقة الكاريبي. والجزء الآخر من الجائزة المالية خُصِّصَ لتمويل كتاب برجر “رجل سابع”، مع المصوِّر جين مور، ويدور حول العمال المهاجرين الأوروبيين – الكتاب الذي قال إنه يودّ لو يبقى بعد مماته. ويبدو أنَّ أحد أعضاء جماعة الفهود السود رافقه إلى مراسم تقديم جائزة بوكر وأخذ يُكرر على مسمعه أنْ “يحافظ على هدوئه”.

   والآن برجر ينظر إلى نسختي الطباعية من كتاب “مسامرات” – منتخبات من مقالاته ورسومه (في شبابه كان قد التحق بمدرسة تشلسي للفنون، ودرس تحت إشراف هنري مور، وقام بالتدريس هناك إلى أنْ عُيِّنَ ناقداً فنياً في صحيفة نيو ستيتسمان). نتأمّل رسمه التخطيطي الحيوي لحفنة عشوائية من نبات الفطر. وتحته كتب بخط يده: “أراك لاحقاً، أومليت[2] .. “. إنَّ الناس ينسون أنَّ لبرجر روحاً مرحة. وأنه فضوليّ. ويُصغي – كم يُصغي. على مائدة الغداء، يدور الحديث الخفيف عن الأرضي شوكي وعن طبق جورجي رائع يحتوي الجوز، لكنَّ هذا قاد نيلا إلى الحديث عن زوجة برجر الأميركية، بيفرلي بانكروفت (والدة إيف ؛ أما الولدان الأكبر سناً فهما من زواج تم قبل ذلك)، توفيت في عام 2013، وذائقتها الفنية كمعتنية بالبساتين. وهذا يُذكّرني بالمشهد الأقوى تأثيراً في “فصول في كوينسي”، وفيه يحثّ برجر توأم تيلدا سوينتون المراهقين على قطف ثمار توت العلّيق لأنَّ بيفرلي تحبها. ويقترح برجر أنْ يجمع التوأم صور لبيفرلي الفوتوغرافية – ومن ثم يتابعان ويصنعان مذبحاً يدوياً ويأكلان كميات كبيرة من توت العليق إلى جواره. ويخبرهما برجر “إنَّ سروركما سيكون مبعث سرورها”. ومع الانتهاء من وجبة الغداء، تهمس نيلا لي فيما بيننا أنها لقّبتْ منزلها الباريسي بـ “فندق اسبينوزا” – على اسم فيلسوف برجر المفضّل من القرن السابع عشر. وقد ألهمه اسبينوزا بتأليف كتابه “دفتر رسم بينتو” عام 2011، وكان الفيلسوف يعمل في النهار في شحذ العدسات. وكبطله، يفضّل برجر ألا يُميِّز بين الجسديّ والروحيّ. ويُخبرنا بأنَّ رؤيا اسبينوزا هي أنَّ “كل شيء فرديّ”

   بعد تناول الغداء انتقلنا إلى غرفة مكتبه، عرين اللوحات، مكان يعمّه الضوء، نوافذه مُشرّعة على آخرها، تطل على أشجار. يحاول أنْ يجلس بارتياح على الأريكة البيضاء، لكنَّ ظهره يؤلمه بسبب التهاب المفاصل. إنَّ برجر، ككاتب، يتصف بتلك الموهبة الفريدة والرائعة بمقدرته على جعل الأفكار المعقّدة بسيطة. وذات مرة قال، في مقابلة له بثّتها الـ BBC أجراها جيريمي أيزاكس، إنه يحب، في أعماله كلها، أنْ يتبع نصيحة المصوّر روبرت كابا: “عندما لا تكون الصورة جيدة بالقدر الكافي، اقترب أكثر …”. وتبقى رؤيته للتفاصيل لا تُضاهى ومُدهِشة على الدوام (فكِّر في ملاحظته الفاتنة حول أنَّ الأبقار تمشي وكأنها تنتعل أحذية بكعب عال). إنَّ قراءته تشبه الوقوف عند النافذة – ربما أقرب شبهاً بالنافذة في غرفة المكتب هذه – ولا أحد يقفُ حائلاً بينك وبين المشهد.” إنَّ أسلوبي في النظر يأتيني بصورة طبيعية بوصفي إنساناً فضولياً – أنا أشبه بالمراقب – الحارس الذي يجلس في قارب ويؤدي مهاماً صغيرة، كرمي أشياء داخل المرجل، لكنني لستُ ملاحاً – على العكس تماماً. إنني أتجول في أرجاء القارب، أعثر على أماكن غريبة – كالصواري، وجانب القارب – ثم بكل بساطة أُرسل نظري نحو المحيط الواسع. وأعي أنَّ السفر لا صِلة له بكون المرء ملاّحاً”

   ولدَ برجر في ستوك نيوينغتون. والده، ستانلي، كان مهاجراً هنغارياً جاء من تريست عبر ليفربول إلى لندن وتركت عليه الحرب العالمية الأولى أبلغ الأثر وكان قد خدم في أثنائها كضابط في سلاح المشاة ونال وسام الصليب الحربي. أحبَّ الرسم وعلَّمَ نفسه بنفسه (عندما وجده والده يقرأ رواية “يوليسيس” لجيمس جويس، صادر الكتاب بالإضافة إلى خمسة كتب أخرى، وأغلق عليها داخل خزينته). في الفيلم الذي نفّذه كولن ماكيب عن كتاب “فصول في كوينسي”، بيَّنَ برجر لتيلدا سوينتون (صديقته على مدى أكثر من عشرين عاماً) كيف تُقطِّع التفاحة إلى أربعة أقسام وكيف تقشّرها كما كان والده يفعل، ويتذكّر بكل حب كيف أنّ والده أراد له أنْ يُصبح محامياً، أو طبيباً أو جنتلماناً إنكليزياً.

   والدة برجر، ميريام، جاءت من برموندسي، في جنوب لندن (كان والدها يعمل على متن السفن ويعتني بجياد عربات نقل الخمر). كانت تنادي بحق المرأة في الاقتراع وكانت أيضاً، كما قال برجر، “شخصية شديدة الغموض، شديدة التكتّم”. ولكنها لم تكن متكتّمة بشأنْ طموحها في أنْ يُصبح ابنها ذات يوم كاتباً. إنَّ برجر يفضّل أنْ يتجنب الكلام عن مدرسته الداخلية، سينت إدوارد، في أكسفورد، التي وصفها ذات يوم بـ “جنونية” بممارسة “السادية، والتعذيب، والتنمُّر … مكان فظيع بكل المعايير، حكم ديكتاتوريّ صغير”. أُرسِل إلى هناك وهو في السادسة وفرَّ هارباً وهو في السادسة عشرة. فهل أدرك وهو في المدرسة أنَّ العالم جائر؟  يُجيب “بل علِمتُ قبل ذلك، وأنا في الخامسة”. ويسكت وأنتظر. وكأنني أراقب صياد سمك وهو يسحب الصنارة: “كانت أمي – لكي تجمع نقوداً وترسلني إلى المدرسة – تصنع البسكويت، والحلوى، والشوكولاته وتبيعها. لم أكنْ أراها كثيراً بما أنها كانت معظم الوقت في المطبخ، تعمل. ولكن ذات مرة كنتُ في المطبخ وجاء ذلك الشاب مع دراجته وطلب قطعتيّ شوكولاتة. فانتقتهما وذكرتْ السِعر فقال: “أوه، عفواً، ليس معي هذا المبلغ. إنها غالية بالنسبة إليّ” وابتعد دون أنْ يأخذ أي قطعة من الشوكولاتة. وقد صدمتني تلك الحادثة بقوة. لم أصدر حكمي. لا على أمي ولا عليه لأنه لا يمتلك المبلغ اللازم”. وسكت. “كنتُ فقط في انتظار كارل ماركس” وضحك .

   في مقالة بعنوان “وقاحة” من كتابه “مسامرات”، يصِف مدبرة المنزل النيوزيلندية (قبل التحاقه بالمدرسة) التي كانت تضعه داخل ما تسميه “خزانة البكاء” كلما بكى. أحياناً كانت أمه ترتقي إلى الطابق العِلوي لتطمئن عليه وتُدخِل السرور إلى نفسه بجلب صندوق من حلوى الشوكولاته. “إنَّ المدرسة بدل أنْ تجعلني في مواجهة شيء، أكّدتْ على شيء أعرفه أصلاً لأنه كان لديّ، منذ سن مبكّرة جداً، ذلك الإحساس بالخشونة وبالحاجة إلى التحمُّل”

   في عام 1944 التحق بالجيش، رافضاً منحه رتبة في سلاح المُشاة الخفيف في أكسفوردشير وبكنغهامشير، وأصبح وكيل عرّيف في معسكر تدريب. مفضّلاً مُصاحبة متطوعين من الطبقة العاملة، أصبح ناسخاً لهم، يكتب رسائلهم الموجّهة إلى أرض الوطن. وبصورة ما، استمر في عمله هذا طوال حياته: يحكي حكايات الآخرين لئلا تزول .وفي حديث مع سوزان سونتاغ، قال ذات مرة: “إنَّ القصة هي دائماً عملية إنقاذ”، وقال أيضاً (في “فصول في كوينسي”): “إنْ كنتُ أحكي حكايات فذلك لأنني أُصغي. بالنسبة إليّ، راوي الحكايات أشبه بالمُهرِّب الذي يُهرِّب المواد المحظورة عبر الحدود”

   في كتابه الصادر عام 1975، “رجلٌ سابع”، ويدور حول الهجرة، حافز الإنقاذ واضح. يكتب برجر قائلاً في المقدمة: “إنَّ رسم معالم تجربة العامل المُهاجر وربطها بمحيطه – مادياً وتاريخياً – يعني استيعاب الواقع السياسي الراهن في العالم بثقة أكبر. إنَّ الموضوعَ أوروبيّ، ومغزاه عالميّ. فكرته الأساسية هي انعدام الحرية”. عندما يفكّر في أزمة اللاجئين اليوم – التي لم تعُد تقتصر على أوروبا وحدها – فهل يرى العالم الأول يُعاني من قصور في المُخيّلة؟ وتسود فترة صمت أخرى، أشبه بهوّة سحيقة يكاد المرء يسقط فيها. وأخيراً يُجيب: “إنَّ ما يجمع بين شعبين مختلفَين سوف يكون دائماً، في الأحوال كلها، أكبر من نقاط الاختـلاف بينهما. ومع ذلك ولأسـباب عديـدة، تُعمي الظروف عيون الناس عن هذا”

  ما رأيه في بريكست[3] Brexit؟ يرتاح بظهره على الأريكة (كنا عندئذٍ قد انتقلنا من غرفة المكتب بتدفئتها المُبالَغ فيها إلى الصالون الأكثر برودة، وانتقلت الأريكة في هذه العملية) واعترف بأنه لطالما كان أمراً هاماً بالنسبة إليه أنْ يوصَف بأنه أوروبيّ. ثم يحاول أنْ يصف الصورة الأكبر كما يراها: “يبدو لي أننا يجب أنْ نعود، أنْ نلخّص معنى العولمة، لأنه يعني أنَّ الرأسمالية، والمنظمات المالية العالمية، بدأتْ تفكر ولم تعد المُنتجة الأولى والرائدة، وفقد السياسيون قدرتهم كلها تقريباً على اتّخاذ القرارات السياسية – وأعني بهم السياسيين بالمعنى التقليدي للكلمة. ولم تعد الأمم كما كانت في السابق”. في تلك الأثناء (المقالة الأخيرة في “مناظر طبيعية”) يلاحظ أنَّ كلمة “أفق” قد غابت عن المشهد العام في الحوار السياسي. ويُضيف، عائداً إلى موضوع البريكست، بالقول إنه صوّتَ بقدمه منذ زمن بعيد، عندما انتقل إلى فرنسا.

   نتحدث عمّا يعني لشخص أنْ يتخذ من بلد أجنبيّ وطناً له، وكيف يمكن أنْ نُحب مشهداً عاماً كما نحب وجهاً مألوفاً. النسبة إلى برجر، هذا الوجه هو أوت-سافوا. “هذا هو المشهد الذي عشتُ فيه طوال عقود من الزمن [لم يُغادره إلا بعد وفاة بيفرلي؛ ولا زال ابنه إيف يُقيم هناك مع عائلته]. الأمر هامّ بالنسبة إليّ، لأنني خلال تلك الفترة عملت كفلاح. حسن، دعنا لا نبالغ. أنا لم أعمل بكدّ واجتهاد مثلهم لكنني عملت باجتهاد، أؤدي بالضبط الأعمال نفسها التي يقوم بها الفلاحون، يداً بيد. هذا المشهد شكّل جزءاً من طاقتي، وجسمي، وارتياحي وقلقي. أحببته ليس لأنه مشهد عام – بل لأنني شاركتُ فيه”.

   يشرح قائلاً: “إنَّ الصِلة بين الوضع الإنساني والعمل دائماً منسيّة، ولطالما كانت بالنسبة إليّ هامة. وأنا في السادسة عشرة، هبطتُ إلى منجم للفحم في دربيشير وأمضيتُ يوماً داخل عرق الفحم – مكتفياً بمراقبة العمال. وكان لذلك أثره البالغ “. بماذا شعرت؟ قال بهدوء “بالاحترام. فقط الاحترام. وهناك نوعان. احترام تؤديه بمراسم – كما يحدث عندما تقوم بزيارة مجلس اللوردات. ونوع آخر تماماً من الاحترام مصحوب بالخطر”. يقول “هذه ليست وصفة للآخرين، ولكن عندما أستعرض حياتي الماضية أرى أنَّ عدم التحاقي بالجامعة له مغزى عميق. لقد رفضتُ الالتحاق. كثير من الناس حثّوني على ذلك وقلت: كلا، لا أريد”، لأنَّ السنوات التي نمضيها في الجامعة تشكِّل نمطاً خاصاً من التفكير “وهل شعر بالحرية جراء ذلك؟ “نعم”.

   إنَّ كلمة برجر – المناسِبة، نظراً إلى عمله مع الفلاحين – تعني الراعي بالفرنسية. فهل يعتبره الفرنسيون واحداً منهم؟ “إنَّ ممارستي الكتابة في فرنسا لم يكن لها أثر بليغ. البلدان التي يقرؤونني فيها على نطاق واسع هي إسبانيا، أميركا اللاتينية، وحتى مؤخراً، ويا للغرابة، تركيا …. وإيطاليا”، ولم يعِش على مستوى كنيته، ما عدا “أنني كنتُ أحياناً أحمل شاةً مستعدة للتلقيح على متن سيارتي السيتروين 2CV للجماع مع كبش”. أقول نحن لا نسمي هذا رعياً، بل نسميه شيئاً آخر. فيضحك. إنه رجل عمليّ؛ حتى قبل بضعة أشهر كان (ثمانونياً في ذروة حيويته) لا يزال يمتطي الدراجة النارية. وتخبرني نيلا بأنهما يأملان في يعود قريباً إلى الركوب من جديد – والسباحة. وبرجر سبّاح ماهر، وفي “مسامرات” يكتب بصورة بارعة عن ديموقراطيّة السباحة – فالناس يتجرّدون من زخارفهم الواشية، ويسبحون. يقول “عندما تسبح، تصبح بلا وزن، وانعدام الوزن هذا يجمعه بالتفكير قاسم مُشترك”. وهناك أيضاً سردٌ رائع (في كتاب “دفتر رسم بنتو”) لصداقة عقدها مع امرأة كمبودية تشاركه في بركة السباحة الباريسية نفسها. تعطيه رسماً لطائر وتعلّمه، كما يؤكّد، شيئاً عن التشرُّد.

   مع اقتراب برجر من عامه التسعين يشعر بأنَّ أسلوبه في الرؤية لم يكد يتغيَّر بصورة مُدهشة، على الرغم من أنَّ التكنولوجيا، كما يُشير، غيَّرتْ أسلوب استكشاف الجيل الأصغر سناً للفن. لذلك يعترف، مع حماسه للنصوص المرئية: “بأنني أحببتها مدة طويلة لأنها أشبه بالهمسات – وهي تتماشى مع الحميمية، والسريّة، والمرح …”. ولكن لا شيء ثابت في طريقته في الرؤية. إنه يؤمن بأنَّ المرء لا يرى اللوحة نفسها مرتين: “في المرة الثانية التي رأيت فيها لوحة المذبح[4] لغرونفولد كان ذلك بعد عملية إرهابية –  كانت اللوحة نفسها لكنني رأيتها بصورة مختلفة”. وأهميّة بعض الرسامين اختلفت أيضاً. لقد قلَّ إجلاله لموديلياني، وزاد إعجابه بفيلاسكيز: “عندما يكون المرء شاباً، فإنه يحب الدراما. الإثارة، البراعة في الأداء – لم يكن لدى فيلاسكيز أيٌ من هذه”

   بوصفه كاتباً، لطالما كان برجر موهوباً في جعل الغائب حاضراً. أكان يستطيع أنْ يستحضر الذين فقدهم في ذهنه؟ “نعم، نعم، نعم … إنهم حاضرون جداً”. وأُخبره عن مدى تأثّري بمقالته “كراكاو” (ضمن مجموعته “مشاهد طبيعية”)، وفيها يتذكّر أستاذ مدرسة من نيوزيلندا، كِنْ، الذي ترك لديه أثراً عميقاً، وامتلأت عيناه بالدموع وأنا أتكلّم. وكِنْ أخبره بأنه إذا جافاه النوم، “تخيَّل أنكَ تتلاعب بمجموعة من أوراق اللعب” –  ولا زال يتبع هذه النصيحة إلى الآن. وعلَّمه كِنْ أيضاً خدعة (لم تعد مفيدة الآن) هي كيف يدخل حانة مُخصصة لمَنْ لم يبلغوا سن الرشد: “لا تنظر خلفك … لا تدع الشك ينتابك ولو لبرهة، فقط كُنْ أشد ثقة في نفسك منهم “. ويُحذِّر من رثاء الذات. “كلما شعرت بميل إلى رثاء ذاتي، أحوّله إلى غضب حانق. حتى وأنا في سني المتقدمة لا زلت قادراً على أنْ ينتابني غضب شديد”

   لكنَّ أعظم قوة يتحلّى بها برجر في سنه المتقدمة هي قدرته على أنْ يعيش في الحاضر. “لقد طوّرتُ هذا عندي منذ سن مبكّرة – وهذه هي المفارقة – لأنه كان بمثابة هروب من الأدوية، والنبوءات، والعواقب والأسباب”. واللحظة الحاضرة هي مفتاح تفكيره أيضاً. في كتاب “أساليب الرؤية” يقترح أنْ تجسِّد اللوحات الحاضر الذي رُسِمَتْ فيه. وعرَّفَ سرّ القراءة بصوت مرتفع، قال إنها “رفض النظر إلى الأمام، أنْ يكون في اللحظة”. ويقول إنَّ القصة تضع المُصغي إليها “في حاضرٍ أبديّ”. وكتب أيضاً عن حركة الزمن الدائرية. فهل يعتقد أنَّ هذا ينطبق على الحياة الفردية؟ هل هناك، في عهد الشيخوخة، من سبيل في أنْ يُمسك المرء بيد ذاته الشابة؟

   “إنَّ حركة الزمن دائرية، وفيما يتعلق بصورة ميلينا تلك، هذا بالضبط ما أشعر به”. ويقترح أنْ ألتقط صورة فوتوغرافية للوحة. ونحملها إلى الضوء، ونسندها إلى ظهر الكرسي. أقول إنَّ صحيفة الأوبزرفر سوف تحتاج إلى صورة فوتوغرافية تتماشى مع المقابلة ويسأل بخبث صبيانيّ: “هل نستطيع أنْ نستخدم صورتها بدل صورتي؟”

   ولا أُدرك إلا بعد أنْ أعود إلى المنزل أنني فشلتُ في أنْ أسأله كيف ينوي أنْ يقضي يوم مولده. فأُرسِلُ إليه رسالة نصيّة ويتصل بي هاتفياً في الحال. يقول “اسمعي، إنني أشعر بالامتنان الشديد لبلوغي سن التسعين – وهو سن عظيم – وممتن لأصدقائي أيضاً لرغبتهم في الاحتفال بالمناسبة، لكنني أخبرتهم جميعاً بأنَّ ما علينا أنْ نفعل في هذه المناسبة هو التزام الصمت. يجب أنْ يكون يوم مولدي كأي يوم آخر”

_________________________________________

[1] – وثيقة العمل المقصود بها المعاهدة التي أقرها الإنكليز في مستعمراتهم بعد إلغاء العبودية عام 1833 ، واستبدلوها بهذه المعاهدة المُذلّة .              – المترجم

[2] – الأومليت : العجّة .

[3] – بريكست : اختصار لعبارة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي .                 – المترجم

[4] – لوحة المذبح : تمثل السيد المسيح على الصليب ، لماتياس غرونفالد من القرن السادس عشر .             – المترجم

*****

خاص بأوكسجين