إسـتاد ويمـبـلدون: عن الكتابة المستحيلة
العدد 228 | 10 آذار 2018
أحمد الزناتي


من بين الأعمال الأدبية التي تناولت ثنائية النطق والصمت عند الكُــتّاب في حـبكة قصصية شائقة، رواية “إستاد ويمبلدون” للروائي الإيطالي دانيلي ديل جوديتشيه، وهي رواية قصيرة نُشرت للمرة الأولى سنة 1983، ونقلها إلى العربية د. سيد الشيخ ضمن سلسلة الإبداع القصصي، المشروع القومي للترجمة سنة 2014. على صفحة الغلاف الأخيرة من الترجمة العربية نقرأ كلمةً للروائي لإيطالي إيتالو كالفينو عن الرواية:” هذه الرواية تحكي لنا عن شاب يقوم بتحقيق حول شخصية محددة بعد وفاتها بخمسة عشر عامًا. مَنْ كانت هذه الشخصية التي تُعدّ شخصية متأصلّة في الحياة الأدبية الإيطالية؟”

الشخصية المحورية في الرواية هي الناقد والناشر الإيطالي روبيرتو بازلن (1902 – 1965)، الشهير بـ”بوبي” بازلن، وهو من أكثر الشخصيات غموضًا وغرابةً في الحياة الثقافية الإيطالية. فالمعلومات المتاحة عنه بالإنجليزية شحيحة، رغم ذيوع صيته في الأوساط الأدبية الأوروبية، فضلًا عن صداقته لأدباء كبار مثل جيمس جويس وإيتالو سفيفو ويوجيني مونتالي.

كما أنّ ما نشره الرجل طوال حياته لم يتعدَ مقالات قصيرة، رغم مساهماته القيّمة في تعريف الساحة الثقافية الإيطالية بروبرت موزيل وبكافكا وبفرويد. يُقال عن بازلن أنّه الرجل الذي قرأ كل الكتب بكلّ اللغات، الرجل الذي قرأ كلّ شيء واستوعب كل شيء. فـردٌ في طابور طويل يضمّ بورخيس وبيسوا وإيكو وغيرهم. الاختلاف الوحيد أنّ بازلن لم يؤلّف كتابًا، إذ لم يترك سوى “ملاحظات بلا نصّ”. كان يقول: أعتقد أنّه ليس بالاستطاعة كتابة كتب، لا أكتبُ سوى هوامش أسفل الصفحة”، مقتربًا بذلك من رؤية خورخي لويس بورخيس، حين سُئلَ عن عزوفه عن تأليف الروايات قائلًا:” إنّه لإفراط مُجهد ومُفقر تأليف الكتب الضخمة، وإفراد خمسمئة صفحة لفكرة، بينما يستغرق شرحها الشفهي دقائق قليلة. فضّلتُ كتابة تعليقات على كتب مُتخيّلة (حكايات، بورخيس، ت: سلسلة آفاق عالمية – ت: عبد السلام باشا)، لكن رؤية بازلن كانت أشدّ تطرّفًا وزُهدًا، بل وغرقًا في صمت أبدي حتى نهاية حياته.  

صحيحٌ أنّ ظاهرة بازلن ليست جديدة، فتاريخ الأدب الغربي الحديث حافل بهذه النماذج من أول آرتور رامبو، مرورًا ببارتلبي النسّاخ (كنموذج روائي)، وصولًا إلى خوان رولفو وديفيد جيروم سالنجر وغيرهم كثير، وهم الكتّاب الذين يصفهم الروائي الإسباني أنريكه بيلا- ماتاس بكُــتّاب “اللا” في كتابه بارتلبي وأصحابه (سنابل للكتاب 2010، ت: عبد الهادي سعدون)، لكن الأمر مع بازلن مختلف، فالرجل لم يقترب من الكتابة المُكتملة من الأساس.

يرتكـز محور رواية “إستاد ويمبلدون” على السؤال التالي: لماذا لم يكتب بوبي بازلن؟ للإجابة عن السؤال اعتزم الراوي، وهو روائي شاب القيام برحلة طويلة عبر مدينة تريسته الإيطالية وغيرها وصولًا إلى لندن، مقتفيًا ما تبقّى من آثار “بازلن”، ومحاولًا لقاء معارف الرجل القدامى، أصدقاء وصديقات الطفولة، لكنّه يكتشف وهو يتعقبهم مثل من يطارد سرابًا أو وهمًا، فمعظم الشخصيات إما شيوخ أنهكهم الزمن، وإما شخصيات غامضة تعطي إجابات مشوبة بهذيان الأحلام. فتأتي الإجابات مبتورة وغامضة مثل بطل الراوية.

يستخدم جوديتشيه في سرد الأحداث تـقـنية سردية شائقة. حيث يعمد إلى الإشارات العابرة إلى شخصية الراوية الرئيسة، مستخدمًا على الدوام ضمير الغائب (هـو)، فيذكر اسم بازلن صراحةً في مواضع نادرة في الرواية، وكأنّه يفترض أنّ القارئ يعرف مُسبقًا هويّة من يدور الحديث عنه، أو ربما كان يتوجه جوديتشيه في روايته بالأساس إلى الروائيين والكتّاب.

في بداية الرواية (صفحة 25) يُرسل المؤلّف الإشارة الأولى إلى القارئ عن موضوع بحثه، بسؤال إلى صديقة قديمة:” لماذا لم يكتب؟ لكنه لا يشرح ولا يعرب صراحةً عن هوية الشخـصية محـل السؤال.

بين الحين والآخر يعطي الراوي (هل هو المؤلّف جوديتشيه؟)  لمحاتٍ سريعة عن حياة بازلن، ولا سيما حياة الكتابة لديه، فيقول على لسان مَـن قابلهم أنّ بازلن كان يكتب بالفعل، لكنه كان يكتب أشياءً غير مُكتملة، وغادر الحياة وهـي غير مُكتملة. في موضع آخر من الرواية يطرح الراوي سؤالًا آخر:”هل كان بازلن يخشى التفاهة؟”، فيجيب مُحدّثه أن الخوف من التفاهة يجعل الكاتب الحقيقي يخاطر كثيرًا. وربما كانت كثرة الكتب التي يتلقاها بصفته ناشرًا ومحررًا أدبيًا كانت تثبّط عزيمته في بدأ الكتابة، قال بازلن يومًا: ماذا سأضيف إليها أنا أيضًا مِن كُـتـب؟ كان بازلن يرى أنّ الكتابة لا تستهويه، لإن الكتابة الحقيقية عملية مستحيلة.

تطرح الرواية أيضًا تصورًا فريدًا عن العلاقة بين الكاتب والكتابة. يقول أصدقاء بازلن القَدامى أنّ الرجل كان صديقًا للكتابة، لا عاشقًا لها وهو ما كتب له البقاء في عقل من يحبهم ويحبونه. فالحب يقتضي الإخلاص لفردٍ بعينه، بينما الصداقة للجميع. العاشق في منافسة للفوز بقلب المحبوب وإقصاء الآخرين، أما الصديق فيضع ذاته خارج المنافسة. الصداقة أخـوّة نبيلة، لا ينبغي أن تتأذى بشوائب المنافسة أو الغيرة. فلا حروب ضدّ نفسه ولا ضدّ الآخرين، وهذا هو الانتصار الحقيقي. كان بازلن يكتب الشِعـر أحيانًا ويُهديه إلى صديقاته الجميلات، يكتب إلى المقرّبين من أصدقاءه وصديقاته، مُـسـتـمـتعًا بالتعليقات التي يدوّنها على هوامش الكتب وبالرسائل القليلة التي كان يُرسلها إلى معارفه.

يتنقّل الراوي بين إجابات عديدة، بعضها متناقض والآخر متسقّ مع ما رواه أصدقاء بازلن عن صمته الأبدي، وعزوفه عن الكتابة الجادّة، وانصرافه إلى تأمل الحياة والاستمتاع بها. فهناك مَن قال: لم تكن الكتابة تستهويه، بينما أفتى آخر: ربما كان يريدُ أبعد مما وراء الكِـتـاب والكتابة. إجابات مُربكة وغامضة، مثل شخصية بازلن نفسها. في منتصف الرواية تقريبًا، نقرأ عبارةً لافتة وردتْ على لسان بازلن وأراد وضعها داخل روايته التي لم يُكملها حتى وفاته، رواية قبطان الأعالي، تقول: هل تعرف نفسكَ؟ فأجبتُ: نعم ظاهريًا.

 

هل كان صمتُ بازلن إجابة وافية عن سؤاله السابق، أعني سؤال معرفة نفسه من خلال الكتابة، وتعثّره في هذه المحاولة؟

تنتهي الرحلة بزيارة لصديقة قديمةٍ كانت مُـقّربة من بازلن، تُدعي “أليوبا بلومينتال”، تعيش في منطقة ويمبلدون في العاصمة البريطانية لندن، ومن هنا جاء عنوان الرواية، حيث يوشك الراوي معرفة سبب امتناع بازلن عن الكتابة بعد زيارته لإستاد ويمبلدون الشهير للتنس.

تحكي بلومينتال قصصًا غريبة عن حياة بازلن، وعن إسرافه في إنفاق المال، وعن عدم قدرته على عيش حياته الشخصية، وانغماسه في عيش حياة الآخرين، ثمّ اضطرابه في أواخر أيامه وتحوّله إلى شخصٍ عدميّ، لا يحب أحدًا ولا يأبه بأي شيء على الإطلاق. تخبر بلومينتال الراوي أنّها تحكي هذه الحكايات شفاهةً بعد أن حاولت آلاف المرّات كتابتها، ثمّ مزّقتْ ما كتبَتْ، مقّلدة بذلك بازلن، الذي كان يخشي أن يعلم أحدٌ رأيه فيما يكتب، فكان يمزّقه على الفور، وكأنه يخاف أن يخيّب أمل الآخرين فيه وفيما يكتب.

تعطي سيدة ويمبلدون الراوي سببيْن لتفسير امتناع بازلن عن الكتابة ولزوم الصمت، الأول هو رغبته في أن يعرف الناس أهمية أفكاره من خلال صمته المتواصل، والثاني هو أنّ البشر يمرّون في أثناء حياتهم بمراحل ينبغي لهم أن يتخذوا فيها قرارًا، وعند هذه اللحظة تتغيّر الأمور، ولا يُمكن المضي قدمًا في الحياة مثلما كانوا في السابق، وقد ومرّ بازلن بهذه اللحظة. لكنها تؤكّد أنّ السبب الحقيقي يكمن عند مَنْ اتخذ قرار الامتناع عن الكتابة.  

من خصائص الأدب الجميل أنّه لا يعطي إجابات بقدر ما يطرح أسئلةً. يغادر الراوي منطقة ويمبلدون حائرًا، مُحملًا بأسئلةٍ تفوق عدد الأسئلة التي أتى بها؛ أسئلة عن جدوى الحياة والأدب، وعن النطق والصمت، وعن استحالة الكتابة.

*****

خاص بأوكسجين


روائي وقاص من مصر. من رواياته "البساط الفيروزي: في ذكر ما جرى ليونس السمّان"" 2017، و""ماضي"" 2017."