أنا مجنون
العدد 171 | 19 نيسان 2015
جي دي سالينجر/ترجمة: شادي خرماشو


نشرت هذه القصة القصيرة لسالينجر بعد انتهاء خدمته في الحرب العالمية الثانية في 22 ديسمبر 1945، وفيها الكثير من الملامح التي ستتبلور في روايته الشهيرة “ذا كاتشر إن ذا راي”.

كانت الساعة تعلن الثامنة ليلاً، والظلام يُحكم سيطرته على ما حوله. مطر وبرد يجمّد الدم في العروق، والرياح تعصف كما لو أنها معدّة لتصوير ذلك المشهد الذي يُقتل فيه عجوز أخرق بعد أن يكتب وصيته في أحد الأفلام المرعبة. كان البرد يقتلني وأنا واقف إلى جانب المدفع على قمة تلة تومسن أراقب النوافذ الجنوبية لقاعة الرياضة وهي تسطع بقوة وصمت… تلك النوافذ التي تشبه كل نوافذ قاعات الرياضة، ولا شيء غيرها (ربما لن يعرف من لم يذهب منكم إلى مدرسة داخلية ما الذي أتحدث عنه). 

لم أكن أرتدي سوى سترتي التي تُلبس على الوجهين، أما يداي فقد كانتا عاريتين بلا قفازين. فقد سرق أحدهم سترة شعر الجمل خاصتي الأسبوع الفائت، وكان قفازي في أحد جيوبها. يا إلهي كم كنت أشعر بالبرد. وحده المجنون كان ليقف حيث كنت في هذا البرد القارص. هذا أنا. مجنون. وعندما أقول “مجنون” أنا لست أمزح، أنا أعاني بالفعل من مشاكل عقلية. لكني كنت مضطراً إلى الوقوف هناك لأشعر بوداع شباب المكان… كما لو أنني كنت عجوزاً. كل من في المدرسة احتشد إلى جانب قاعة الرياضة ليشاهد مباراة كرة السلة مع هؤلاء الخرقى من مدرسة ساكسون كارتر، وأنا كنت واقفاً هناك لأشعر بالوداع. 

وقفت هناك، يا إلهي! كان البرد يقتلني، ولم أتوقف عن وداع نفسي، “وداعاً كولفيلد، وداعاً أيها الأخرق”. كنت لا أنفك أرى نفسي رامياً الكرة إلى البعيد مع باهلر وجاكسون، تماماً قبل أن يحل الظلام في ليالي سبتمبر، وكنت أعلم أنني لن أرمي الكرة بعيداً هكذا مع الفتيان أنفسهم وفي الوقت نفسه مرة أخرى. كنا أنا وجاكسون وباهلر نتصرف كما لو أننا ارتكبنا فعلاً ما مات على إثره شيء ما، ودفناه، وأنا الوحيد الذي كنت أعلم بذلك، ولم يكن أحد غيري حاضراً في الجنازة… هكذا وقفت هناك والبرد يجمّد الدم في عروقي. 

كانت المباراة مع هؤلاء الخرقى من مدرسة ساكسون كارتر في شوطها الثاني، وكان بإمكانك سماع الكل يصرخ: كان الصوت هادراً ورائعاً من جهة قاعة الرياضة لمدرسة بينيتي، وهزيلاً ومخنثاً من جهة من يؤيدون ساكسون كارتر، ذلك أنهم ما كانوا يحضرون معهم سوى أعضاء الفريق الأساسي والمدرب وبضعة لاعبين احتياط. كان بإمكانك معرفة ذلك كلما أحرز شوتز أو كينسيلا أو تاتل هدفاً في الفريق الآخر. حينها كان يجن جنون الحشد من جهة قاعة الرياضة لـمدرسة بينيتي. لكني لم أكن مكترثاً بمن يفوز سوى نصف اكتراث. كان البرد يجمّد الدم في عروقي، ولم أكن هناك إلا لأشعر بالوداع… لأكون حاضراً في جنازتي أنا وباهلر وجاكسون ونحن نرمي الكرة بعيداً في ليالي سبتمبر – وأخيراً، وعند سماع إحدى التهليلات شعرت بالوداع يخترقني كسكين… كانت الجنازة في أوجها، وكنت حاضراً فيها بكل ذرة من وجودي. 

هكذا فجأة، بعد أن حدث ذلك، بدأت بالجري هابطاً تلة تومبسون وحقائبي تجلد رجليَ بكل قسوة. ركضت طوال الطريق إلى البوابة، هناك وقفت لألتقط أنفاسي. بعد ذلك ركضت عابراً الشارع 202 – كان زلقاً من الصقيع الذي غطاه، فوقعت وكدت أكسر ركبتي. اختفيت بعد ذلك في جادة هيسي. نعم اختفيت… فأنت تختفي في كل مرة تعبر فيها شارعاً في الليل. لست أمزح. 

عندما وصلت إلى منزل العجوز سبينسر– وهو المكان الذي كنت أقصده- وضعت حقائبي عند البوابة، قرعت الجرس بقوة وسرعة، ووضعت يدي على أذنَي – يا إلهي كم كانتا تؤلماني. بدأت بمخاطبة الباب “هيا، هيا” قلت. “افتح. إنني أتجمد”. وأخيراً جاءت السيدة سبينسر. 

“هذا انت يا هولدن!” قالت. “تفضل بالدخول يا عزيزي!” كانت سيدة لطيفة. الشوكولاتة الساخنة التي تعدها أيام الأحد كانت رديئة للغاية، لكن لا ضير من شربها. 

ولجت المنزل بسرعة. 

“كيف تحتمل كل هذا البرد؟ لا بد من أنك مبتل حتى العظم.” قالت السيدة سبينسر. لم تكن من النساء اللواتي يتركنك مبتلاً بعض الشيء في حضورهن، إما أن تكون جافاً كخشبة أو مبتلاً حتى نقي عظامك. لم تسألني ما الذي كنت أفعله خارج حرم المدرسة، فقدّرت أن يكون العجوز سبينسر قد أخبرها ما جرى. 

وضعت حقائبي في الردهة وخلعت قبعتي – يا إلهي! بالكاد استطعت أن أحرك أصابعي لأمسك بالقبعة. قلت: “كيف حالكِ يا سيدة سبينسر؟ وكيف أصبحت صحة السيد سبنسر بعد إصابته بالزكام، أتمنى أن يكون قد تعافى الآن.” 

“تعافى!؟” قالت السيدة سبنسر. “دعني آخذ معطفك يا عزيزي. يا إلهي، إنه يتصرف وكأنه شخص لا يعلم إلا الله ما الذي يفكر فيه. أدخل إليه يا عزيزي، إنه في غرفته.” 

كان للعجوز سبينسر غرفة خاصة به تقع قرب المطبخ. هو في حوالي الستين من عمره، ربما أكبر، لكنه استمتع بكل لحظة من حياته كما يستمتع نصف الثمل بما حوله غير مكترث بكل ما يجري. وإذا ما تأملت في حياة العجوز سبينسر قد تتساءل ما الذي قد بقي في حياته الآن ليعيش من أجله؟  لكن في حال كنت تفكر فيه بهذه الطريقة، فأنت على خطأ، لأنك في هذه الحالة تكون قد فكرت فيه زيادة عن اللزوم. فلو أنك فكرت فيه بما يكفي فقط، لا أكثر ولا أقل، لأدركت أنه لا زال على ما يرام. لقد استمتع تقريباً بكل ما وضعته الحياة أمامه كما يستمتع نصف الثمل بما حوله غير مكترث بكل ما يجري. أنا أيضاً أستمتع بما تقدمه لي الحياة، لكن حتى الثمالة، وبين الحين والآخر فقط. قد يجعلك هذا تعتقد أحياناً أن المسنين في حال أفضل من حالك، لكني ما أكنت لأتبادل الأدوار معهم. ما كنت لأريد أن أستمتع بكل ما تقدمه لي الحياة طوال الوقت، وتقريباً، وكما يستمتع نصف الثمل بنصف ثمالته. 

كان العجوز سبينسر جالساً على كرسيه الكبير المريح في غرفة نومه، وملتفاً من قدميه إلى رأسه بدثار ناجافو الذي اشتراه هو والسيدة سبنسر من منتزه يلوستون منذ ثمان سنوات. لا بد أنهما قد طارا من الفرح يومها لنجاحهما في شرائه من الهنود. 

“أدخل يا كولفيلد!” صرخ العجوز سبينسر. “أدخل يا فتى!” 

دخلت. 

هناك رأيت أحد أعداد صحيفة الأتلانتيك الشهرية مفتوحة على حضنه، وعلب الأدوية والقارورات تغطي المكان كله. كان هناك أيضاً زجاجة مياه ساخنة. أكره رؤية زجاجة مياه ساخنة، خاصة إذا كانت لشخص عجوز. ربما ليس من اللطف قول ذلك، لكنني فقط أعبر عما شعرت به كما هو. كان واضحاً أن العجوز سبينسر يعي كل ما كان يدور حوله. بالتأكيد لم يكن يتصرف كأنه شخص يعلم الله وحده ما الذي يفكر فيه. من المرجح أن السيدة سبينسر تحب أن تفكر بأنه يتصرف بتلك الطريقة، وكأنها تريد أن تعتقد أن زوجها ما زال في أوج فتوته. هذه خلاصة القصة. 

“لقد وصلتني رسالتك يا سيدي،” قلت له. “وكنت أنوي زيارتك في جميع الأحوال قبل أن أغادر. أتمنى أن تكون قد تعافيت من الزكام؟” 

“يا بني، لو كنت شعرت بأي تحسن، لكان علي أن أرسل في طلب الطبيب،” قال العجوز سبينسر. لقد تمكنت منه تلك الوعكة بالفعل. “اجلس يا فتى” قال لي وهو ما يزال يضحك. “لماذا لست في المدرسة تشاهد المباراة بحق الآلهة؟”  

جلست على طرف السرير. كان يشبه إلى حد ما سرير شخص عجوز. قلت “في الحقيقة كنت في المباراة منذ قليل يا سيدي. لكنني عائد إلى منزلي اليوم بدلاً من الغد. أخبرني الدكتور ترومر إنني أستطيع الذهاب الليلة إذا كان هذا ما أريده بالفعل. لذا أنا ذاهب الآن.”

“حسناً، لا شك في أنك اخترت ليلة جميلة لتفعل ذلك،” قال العجوز سبينسر. وبعد أن فكّر ملياً بذلك قال “ذاهب الليلة إلى منزلك إذاً؟” 

“نعم يا سيدي” قلت. 

قال لي “ماذا قال لك الدكتور تورمر يا فتى؟”

“في الواقع لقد كان لطيفاً، لكن على طريقته هو.” قلت. “أصبح يقول لي كلاماً من قبيل أن الحياة لعبة، وأنني يجب أن ألعبها حسب القوانين وما إلى ذلك. أشياء كهذه. تمنى لي التوفيق، وأن يكون الحظ إلى جانبي… في المستقبل وما إلى هنالك. أشياء كهذه.” 

أعتقد أن تورمر كان لطيفاً للغاية، لكن بذلك الأسلوب الأخرق الخاص به، لذا أخبرت العجوز سبينسر بعض الأمور الأخرى التي أخبرني إياها، كأن أتقبل الحياة كما هي إذا أردت أن أمضي قدماً وما إلى هنالك. حتى أنني اختلقت بعض الأمور. أما العجوز سبينسر فقد كان ينصت بكل اهتمام ويهز رأسه طوال الوقت. 

سألني العجوز سبينسر: “هل أخبرت أهلك؟”  

“كلا يا سيدي،” قلت “لم أخبرهم بعد، فأنا سأراهم الليلة.”  

عاد العجوز سبينسر يهز رأسه مرة أخرى. سألني: “كيف سيتلقون الخبر؟” 

“في الواقع، هم يكرهون هذا النوع من الأخبار.” قلت. “هذه ثالث مدرسة أُطرد منها. يا إلهي! لست أمزح”. قلت له.  

لم يهز رأسه هذه المرة. كنت أضايقه بحديثي هذا، مسكين! فجأة رفع العدد الشهري من صحيفة الأتلانتيك عن حضنه وكأنها قد أصبحت تُثقل عليه، ورماها على السرير. لكنه أخطأ الهدف. نهضت والتقطتها ووضعتها على السرير. وشعرت فجأة برغبة عارمة في الرحيل. 

قال العجوز سبينسر، “ما خطبك يا فتى؟” كم مادة حملت هذا الفصل؟” 

“أربع.” قلت. 

“وبكم مادة رسبت؟” قال. 

قلت “أربع.” 

بدأ العجوز سبنسر يحدق في تلك البقعة من السجادة التي وقعت عليها صحيفة الأتلانتيك الشهرية عندما كان يحاول أن يرميها على السرير. 

“لقد رسّبتك في التاريخ لأنك لا تعرف عنه شيئاً أبداً. لم تحضّر درسك ولو مرة واحدة، لا من أجل الامتحان ولا من أجل التسميع. ولا مرّة. أشك أن تكون قد فتحت كتابك ولو مرة واحدة خلال هذا الفصل، هل أنا محقّ؟” 

أخبرته بأنني قد اطلعت عليه بضع مرات محاولاً ألا أجرح شعوره. كان يظن أن التاريخ مادة هامة بالفعل. كان سيان عندي أن يعتبرني شخصاً أحمقاً، لكنني لم أكن أريده أن يعتقد أنني قد أهملت كتابه. 

“ورقة امتحانك موجودة في الخزانة هناك…” قال. “أحضرها.”

ذهبت وأحضرتها وأعطيته إياها، وعدت للجلوس على طرف السرير. 

كان العجوز سبينسر يتعامل مع ورقة امتحاني وكأنها شيء ذو أهمية عليه أن يعالجه في خدمة العلم أو غيره. وكان يتصرف كأنه باستور أو غيره من علماء الكيمياء. 

قال: “كنا قد درسنا تاريخ المصريين في الفترة الواقعة بين 3 نوفمبر و4 ديسمبر. وأنت اخترت أن تكتب عن ذلك في سؤال المقال، وقد اخترته من بين خمسة وعشرين موضوعاً. وهذا ما كتبته في مقالك: 

“المصريون هم سلالة قديمة من البشر عاشت في إحدى المناطق الواقعة في الشمال الأقصى من شمال إفريقيا، وهي واحدة من أكبر قارات نصف الكرة الشرقي كما هو معروف عند الجميع. ما زال المصريون يثيرون اهتمامنا حتى يومنا هذا، وذلك لعدة أسباب. كما يمكنك أن تقرأ عنهم أيضاً في مواقع عدة في الإنجيل. والإنجيل زاخر بحقائق وطُرف مسلية عن الفراعنة القدماء. وكان الفراعنة كلهم مصريين كما يعلم الجميع.” رفع العجوز سبينسر بصره إلي، وقال: “مقطع جديد”. “من أكثر الأمور التي كانت مثيرة للاهتمام عند المصريين هي عاداتهم. كان للمصريين طرق مثيرة للاهتمام في فعل الأشياء. ديانتهم أيضاً كانت مثيرة جداً للاهتمام. كانوا يدفنون موتاهم في القبور بطريقة مثيرة جداً للاهتمام. كانت وجوه الفراعنة تُلف بقماش مُعالج بأسلوب خاص لتمنع ملامحهم من التحلل. ولم يتمكن العلماء حتى يومنا هذا من اكتشاف التركيبة الكيميائية التي كانوا يستخدمونها، ولذلك تتحلل وجوهنا جميعاً عندما نموت لمدة طويلة.” مرة أخرى نظر العجوز سبينسر إلي من فوق الأوراق. توقفت عن النظر إليه. ما كنت لأرغب في النظر إليه إذا كان يريد أن يحدق بي عند نهاية كل مقطع. “هناك العديد من الجوانب الخاصة بالمصريين التي من شأنها أن تساعدنا في حياتنا اليومية،” قال العجوز سبينسر، “النهاية”. أزاح الأوراق من أمامه ورمى بها على السرير. لم يصب الهدف. لم يكن السرير يبعد سوى قدمين عن مكان جلوسه. نهضت والتقطت الأوراق ووضعتها فوق العدد الشهري من صحيفة الأتلانتيك.  

“هل تلومني لأنني رسّبتك يا فتى؟” سألني العجوز سبينسر. “ماذا كنت لتفعل لو كنت مكاني؟” 

“كنت سأفعل الشيء نفسه،” قلت. “يكفي حديثاً عن هؤلاء الحمقى.” لكنني لم أمنح الأمر اهتماماً كبيراً حينها. كنت أتساءل ما إذا كانت البحيرة في سنتراك بارك قد تجمدت بالكامل عندما أصل إلى المنزل، وفي حال كانت قد تجمدت هكذا، هل سأرى الجميع يتزلجون فوقها عندما أنظر من نافذة غرفتي في الصباح. كنت أتساءل أيضاً إلى أين ذهب كل البط، وماذا حدث للبط عندما تجمدت البحيرة بالكامل. لكن لم يكن بمقدوري أن أخبر العجوز سبينسر كل ما كان يعتمل في رأسي.  

سألني: “كيف تشعر حيال ذلك يا فتى؟” 

“هل تقصد رسوبي يا سيدي؟” سألت. 

“نعم.” قال. 

في الواقع، حاولت أن أبدو مهتماً لأنه كان شخصاً لطيفاً، ولأنه ما انفك يخطئ السرير كلما حاول أن يرمي عليه شيئاً. 

“في الواقع، أنا آسف لأنني رسبت، وذلك لأسباب عدة،” قلت. عرفت أنني ما كنت لأستطيع أن أعبر له عن الموضوع برمته… وقوفي على تلة تومسون وتفكيري بباهلر وجاكسون وبنفسي. “سيكون من الصعب شرح بعض هذه الأسباب بشكل مباشر يا سيدي،” قلت له. “لكن اليوم، على سبيل المثال،” قلت. “اليوم كان علي أن أحزم حقائبي وأن أضع حذاء التزلج خاصتي معها. حذاء التزلج جعلني أشعر بالأسف لأنني راحل.” 

كان بإمكاني أن أرى أمي تنتقل من متجر إلى آخر سائلة الباعة مليون سؤال غبي. ومع ذلك تشتري لي النوع الخطأ. يا إلهي كم هي رائعة، لست أمزح. هذا ما يجعلني آسفاً في المقام الأول لأنني رسبت. من أجل أمي وحذاء التزلج الخطأ الذي ابتاعته لي. هذا كل ما قلته. كان علي أن أنسحب. 

كان العجوز سبينسر يهز رأسه طوال الوقت، وكأنه كان يفهم الأمر برمته. لكن ما كان لأحد أن يعرف ما إذا كان يهز رأسه لأنه كان يستوعب كل ما كنت أقوله له، أم أنه كان يهز رأسه فقط لأنه عجوز لطيف غريب الأطوار يعاني من زكامه. 

“ستفتقد المدرسة يا فتى” قال لي. 

كان شخصاً لطيفاً، لست أمزح. حاولت أن أحكي له أكثر. قلت: “ليس تماماً يا سيدي. سأشتاق إلى بعض التفاصيل فقط. الذهاب إلى بينتي والعودة منها بالقطار… العودة إلى سيارة بيع الطعام وطلب شطيرة دجاج مع كوكاكولا، وقراءة خمس مجلات جديدة بصفحاتها الملساء والجديدة بالكامل. وسأفتقد ملصقات بينيتي على حقيبتي. حدث في أحد الأيام أن شاهدت هذه الملصقات إحدى السيدات، وسألتني ما إذا كنت أعرف أندرو ورباك. كانت تلك السيدة والدة ورباك. أنت تعرف ورباك يا سيدي، علقة في جسد بني أدم. هو ذلك النوع من الفتيان الذي يلوي لك معصمك حتى تنفر عروقك من ذراعك. لكن والدته كان لا بأس بها. كانت يجب أن تكون موجودة في مستشفى المجانين، مثلها مثل كل الأمهات، لكنها كانت تحب ورباك. كان يمكنك أن ترى في عينيها المجنونتين أنها تنظر إلى ابنها على أنه شخصية مهمة. لذلك أمضيت ساعة كاملة في القطار وانا أشرح لها كم كان ورباك مهماً في المدرسة، وكيف أنه ما كان لأحد من الفتيان أن يقدم على فعل شيء دون أخذ الإذن منه أولاً. هذا الحديث أفقد السيدة ورباك صوابها. كانت على وشك أن تدور حول نفسها وهي جالسة على المقعد. هي على الأرجح تعرف في صميمها، ولو نصف معرفة، أن ابنها كان علقة، لكنني غيرت لها رأيها. أنا أحب الأمهات. هن قادرات على توجيه رفسة رائعة إلي بكل محبة.”  

توقفت عن الكلام. لم يكن العجوز سبينسر يتابع حديثي. ربما كان يريدني أن أخبره ما أريد إخباره به باختصار، لا أن أتطرق إلى التفاصيل وحيثياتها. على أي حال، لم أكن أقول الكثير مما كنت أريد قوله. أنا لا أفعل ذلك قط. أنا مجنون. لست أمزح. 

قال العجوز سبينسر: “هل تفكر في الذهاب إلى الجامعة يا فتى؟”

“ليس لدي أي خطط يا سيدي،” قلت. “أنا أعيش حياتي يوماً بيوم.” بدا ما قلته زائفاً. لكنني كنت بدأت أشعر بأنني مزيف. كنت قد لبثت جالساً هناك على طرف السرير لوقت طويل. نهضت فجأة. 

“أظن أنه قد حان وقت ذهابي،” قلت. “عليَّ أن ألحق بالقطار. لقد كنت رائعاً. لست أمزح.” 

بعد ذلك سألني العجوز سبينسر ما إذا كنت أرغب في تناول كوب من الشوكولاتة الساخنة قبل أن أذهب، فرفضت شاكراً. صافحته. كان يتعرق بغزارة. قلت له أنني سأكتب له رسالة في وقت ما، وألا يقلق لأمري، وألا يشعر بالخذلان بسببي. قلت له أنني أعلم أنني مجنون. سألني ما إذا كنت متأكداً من أنني لا أرغب في كوب من الشوكولاتة الساخنة قبل رحيلي، وأخبرني أن إعداده لن يستغرق وقتاً طويلاً. 

“لا،” قلت، “إلى اللقاء يا سيدي، هوّن عليك ريثما تتعافى من الزكام.”

“حسناً،” قال، وصافحني مرة أخرى. “إلى اللقاء يا فتى.” 

قال شيئاً ما وأنا في طريقي إلى الخروج، لكنني لم أتمكن من سماعه. أعتقد أنه كان يتمنى لي حظاً سعيداً. شعرت بالأسف عليه من كل قلبي. عرفت ما الذي كان يفكر فيه: كم كنت شاباً، وكيف أنني لا أعرف شيئاً عن العالم. ماذا يمكن أن يحدث لشبان مثلي وما إلى هنالك. أغلب الظن أنني قد جعلته يشعر بالإحباط لبعض الوقت بعد رحيلي، لكنني أجزم بأنه قد تحدث عني مع السيدة سبينسر بعد أن رحلت، وأن مزاجه قد تحسّن بعد ذلك، وقد طلب منها على الأغلب أن تناوله العدد الشهري من صحيفة الأتلانتيك قبل أن تغادر الغرفة.  

لم أصل إلى المنزل إلا بعد الساعة الواحدة تلك الليلة، ذلك أنني أمضيت نصف ساعة وأنا أتجاذب أطراف حديث بلا معنى مع بيت، فتى المصعد. كان كل حديثه عن شقيق زوجته. شقيق زوجته يعمل شرطياً، وقد أطلق النار على رجل لم يكن مضطراً إلى إطلاق النار عليه، لكنه قام بذلك ليشعر بأنه شخصية مهمة. والآن لم تعد شقيقة بيت ترغب في أن تتواجد على مقربة من شقيق زوجة بيت أبداً. كان هذا قاسياً. لم أشعر بالأسف كثيراً على أخت بيت، لكنني شعرت بالأسف على شقيق زوجته، ذلك الأخرق المسكين. 

جانيت، خادمتنا السوداء، فتحت لي الباب ودخلت. كنت قد أضعت مفتاحي في مكان ما. كانت تضع أدوات من الألمنيوم من تلك التي توضع في الشعر، والتي كانت نتيجتها مضمونة في تقويم تجعّد الشعر. 

“ما الذي أتيت تفعله في المنزل يا فتى؟” قالت. “ما الذي أتيت تفعله في المنزل يا فتى؟” كان من عادتها أن تكرر كل ما تقوله مرتين. 

كنت قد تعبت وضجرت من هؤلاء الناس الذي ينادونني “فتى”، لذلك اكتفيت بسؤالها “أين الجميع؟”

“أنهم يلعبون البريدج،” قالت. “إنهم يلعبون البريدج. ما الذي أتيت تفعله في المنزل يا فتى؟” 

“أتيت إلى المنزل من أجل السباق،” قلت. 

“أي سباق؟” سألت الغبية. 

“سباق/سلالة البشر” قلت مقهقهاً. رميت حقائبي ومعطفي في الردهة وذهبت مبتعداً عنها. أرجعت قبعتي إلى مؤخرة رأسي. كان ينتابني شعور جيد على غير العادة. مشيت عبر الردهة وفتحت باب فيبي وفيولا. كان الظلام دامساً حتى بعد أن فتحت الباب، وكنت على وشك أن أدق عنقي وأنا أحاول الوصول إلى سرير فيبي. 

جلست على سريرها. كانت نائمة بسلام. 

“فيبي” قلت. “يا فيبي!” 

استيقظت بمنتهى السهولة. 

“هولدن!” قالت بلهفة. “ما الذي أتيت تفعله في المنزل؟ ما الأمر؟ ماذا حدث؟” 

“لا شيء، الأمور المعتادة نفسها.” قلت. “ما الأخبار؟” 

“هولدي، ما الذي اتيت تفعله في المنزل؟” قالت. مع أنها ما زالت في العاشرة من عمرها، لكنها عندما تسأل لا تكف عن السؤال حتى تحصل على الجواب الذي تنتظره. 

“ماذا حدث لذراعكِ؟” سألتها. فقد لاحظت وجود قطعة كبيرة من شريط لاصق جاثمة على ذراعها. 

“ارتطمت بباب خزانة الألبسة،” قالت. “جعلتني المدرّسة كيفي مسؤولة عن مراقبة خزانة الألبسة. أنا الآن مسؤولة عن ملابس الجميع.” لكنها عادت مباشرة إلى سؤالها الأول. “هولدي!” قالت، “ما الذي أتيت تفعله في المنزل؟” 

كانت تتحدث كملاك برئ، لكن فقط عندما يكون الحديث موجهاً إلي. لأنها تحبني. لكنها ليست بملاك مع ذلك. فيبي هي إنسانة مثلنا، لكنها ما زالت طفلة. 

“دقيقة واحدة وأعود.” قلت لها، وعدت أدراجي إلى غرفة الجلوس، وأخرجت بعض السجائر من إحدى العلب، وضعتها في جيبي، ثم عدت إليها. كانت فيبي تجلس الآن منتصبة، وتبدو على ما يرام. جلست مرة أخرى على سريرها. 

“لقد طُردت من جديد،” قلت لها. 

“هولدن!” قالت، “بابا سيقتلك.” 

“لم يكن في يدي حيلة يا فيبي.” قلت. “لم يكفوا عن إثقال كاهلي بالواجبات، امتحانات وأوقات دراسة وما إلى ذلك، وكل شيء كان إلزامياً طوال الوقت. كنت في طريقي إلى الجنون. لم يعجبني الأمر وكفى.”  

“لكن يا هولدن، أنت لا يعجبك شيء أبداً.” قالت فيبي، وبدت قلقة بالفعل. 

“لا بل يعجبني، يعجبني. لا تقولي هذا يا فيبي،” قلت. “ثمة ملايين الأشياء التي تعجبني.” 

قالت فيبي: “ماذا؟ أذكر لي شيئاً واحداً.” 

“لا أعرف. يا إلهي، لا أعرف،” قلت لها. “لم أعد قادراً على التفكير في أي شيء اليوم. أحب الفتيات اللواتي لم ألتقِ بهن بعد، فتيات يمكنني أن أرى مؤخرة رؤوسهن فقط وهن جالسات على بعد عدة مقاعد مني في القطار. أحب ملايين الأشياء. أحب الجلوس هنا معكِ. لست أمزح. أنا فقط أحب الجلوس معكِ هنا.” 

“عودي إلى النوم يا فيولا.” قالت فيبي. كانت فيولا مستيقظة. “لقد خرجت من بين قضبان سريرها.” قالت فيبي. 

حملت فيولا وأجلستها على حضني. لو كان هناك طفل مجنون في هذه الدنيا لكانت هي هذا الطفل، لكنها بالتأكيد واحدة منا. 

“هولدي!” قالت فيولا، “قُل لـجانيت أن تعطيني دونالد البطة.” 

“فيولا أهانت جانيت، فأخذت دونالد البطة منها.” قالت فيبي. 

“رائحة أنفاسها كريهة دائماً.” قالت فيولا. 

“أنفاسها،” قالت فيبي. “أخبرت جانيت إن رائحة أنفاسها كانت كريهة وهي تلبسها قماطها.” 

“جانيت تتنفس في وجهي طوال الوقت.” قالت فيولا وهي واقفة على حضني. 

سألت فيولا ما إذا كانت قد اشتاقت إلي، لكنها بدت غير متأكدة ما إذا كنت موجوداً في المنزل أم أنني كنت بعيداً عنه طوال الوقت. 

“عودي إلى النوم يا فيولا،” قالت فيبي. “لقد خرجت من بين قضبان سريرها.” 

“جانيت تتنفس في وجهي طوال الوقت، وأخذت مني دونالد البطة.” قالت لي فيولا مرة أخرى. 

“لا تقلقي يا حبيبتي سأعيده إليكِ،” قالت لها فيبي. لم تكن فيبي تشبه غيرها من الأطفال. لم تكن تنحاز إلى أي طرف عندما يتعلق الأمر بالخادمة. 

نهضت وحملت فيولا وأعدتها إلى سريرها. طلبت مني أن أحضر لها شيئاً ما، لكنني لم أفهم ما هو. 

“تيتون! “قالت فيبي. “زيتون. تموت في الزيتون الآن. تريد أن تأكل زيتوناً طوال الوقت. لقد قرعت جرس المصعد عندما كانت جانيت خارجاً هذا المساء، وطلبت من بيت أن يفتح لها علبة زيتون.” 

“تيتون،” قالت فيولا. “هات تيتون.” 

“حسنا يا عزيزتي،” قلت. 

“مع هذا الشيء الأحمر فيها.” قالت فيولا. 

قلت لها أنني سأجلب لها ما تريد، وطلبت منها أن تخلد إلى النوم. دثرتها بالغطاء وعدت إلى حيث توقف الحديث مع فيبي. انتهى الحديث قبل أن ينتهي، وكان هذا مؤلماً إلى حد ما. سمعتهم يدخلون. 

“هؤلاء هم!” همست فيبي. “أستطيع سماع صوت بابا” 

هززت رأسي، ومشيت باتجاه الباب. خلعت القبعة عن رأسي. 

“هولدي!” همست فيبي في أذني. “أخبره كم أنت آسف لما جرى، وإلى ما هنالك. وبأنك ستبذل جهدك في المرة القادمة!” 

هززت رأسي فقط. 

“عُد!” قالت لي فيبي. “سأبقى مستيقظة!” 

خرجت من الغرفة وأغلقت الباب وراءي. تمنيت لو أنني كنت قد علقت المعطف ووضعت حقائبي جانباً. كنت أعلم أنهم سيصدعون رأسي بالحديث عن غلاء سعر المعطف، وكيف يمكن للناس أن تتعثر بالحقائب وتدق عنقها. 

عندما فرغوا من الحديث معي، عدت إلى غرفة الطفلتين. كانت فيبي نائمة. مكثت أراقبها لبعض الوقت. طفلة لطيفة. ذهبت بعد ذلك إلى سرير فيولا. رفعت الغطاء ووضعت دونالد البطة قربها، ومن ثم أخذت بضع زيتونات كنت أحملها في يدي اليسرى ووضعتها واحدة واحدة في صف على طول حاجز السرير. وقعت إحداها على الأرض. التقطها. لاحظت وجود بعض الغبار عليها. أعدتها إلى جيب سترتي، وغادرت الغرفة بعد ذلك. 

ذهبت إلى غرفتي. شغّلت الراديو، لكنه كان معطلاً، فاستلقيت على السرير. 

بقيت مستيقظاً لوقت طويل ينتابني شعور بالفشل. كنت أعلم أن الكل كان على حق وأنا كنت على خطأ. كنت أعلم أنني لن أكون واحداً من هؤلاء الناجحين، وأنني لن أصبح أبداً مثل إدوارد غونزاليس أو ثيودور فيشر أو لورانس ماير. عندما قال لي والدي إنني سأذهب للعمل في مكتب الرجل الذي كان يتحدث عنه، علمت أنني لن أعود إلى المدرسة أبداً، وأنني لن أحب العمل في هذا المكتب أو غيره. بدأت أتساءل من جديد أين ذهب البط الذي كان يقطن السنترال بارك عندما تجمدت البحيرة بالكامل، وأخيراً غرقت في النوم. 

__________________________________________

الصورة من أعمال الفوتوغرافي الإيطالي أمبرتو فيردوليفا Umberto Verdoliva

*****

خاص بأوكسجين