أعتقد أنَّ يسوع المسيح كان اشتراكياً
العدد 273 | 14 تشرين الأول 2022
تيري ايغلتن | ترجمة: أسامة منزلجي


وُلِدتُ عام 1943 في سالفورد، في إحدى أجمل مناطق المدينة القليلة، في منزل يقع على حافة مستنقع حيث اجتمع إصلاحيو مانشستر قبل قرن من الزمان[1]. لكنَّ المنزل كان مُستأجراً ومتهالكاً، وأراد صاحبه المتنمِّر أنْ يطردنا منه، وكنا فقراء جداً. لقد توفّر لنا الهواء المنعش والمناظر الجميلة، ولكن بلا نقود، خِلافاً لأقاربنا الذين عاشوا في عمق المدينة، ولم يكن لديهم أي شيء منها. كان والديّ إنكليز من الجيل الأول، من أصل أيرلندي. أي أنَّ أجدادي كانوا جميعاً أيرلنديين، اثنان منهم مما يُسمّى اليوم بالجمهورية واثنان من ألستر. وكان فرع العائلة الأيرلندي من جانب أمي جمهورياً سياسياً بصورة تامة. فمثلاً، تعرّفتُ إلى أناشيد المتمردين الأيرلندية المبتذلة وأنا في سن السابعة، وقد منعتني أمي ذات مرة من ترديد أحدها وأنا أعتلي سطح إحدى الحافلات بصوتي الحاد والبريء – وينتابني إحساس غامض بأني لم أرضخ لذلك. وكان والدي فرداً من عائلة تتألّف من اثني عشر فرداً، وهو النمط النموذجي للعائلة الأيرلندية في ذلك الوقت. وكان والدا أمي قد هاجرا أولاً إلى “لانكشير”، حيث وُلدتْ أمي؛ وأتصور أنهم في حقبة الثلاثينيات من القرن الماضي، خلال فترة الكساد الاقتصادي، انجذبوا إلى المدينة. كانت جدتي لأمي تعمل ساقية في حانة، وجدّي عمل في مصنع للغاز. وكذلك كان يعمل جدي لوالدي، بالمصادفة. لكنّ عائلة والدي كانت تنتمي إلى الطبقة العاملة الأدنى، وكانت عائلة أمي تنظر إليها بتعالٍ، وكانوا جماعة من المتغطرسين.

   كان والدي ووالدتي من طبقة عمالية تنطوي على آمال عريضة، ولديهما طموحات تقليدية من أجل أطفالهما، لذلك كانا يسعيان بقوة لجعلنا نحصل على تعليم إعدادي – من الواضح أنهما ربما كانا من الجيل الأول الذي حصل على بعضها. والتحقت بمدرسة ابتدائية شديدة القسوة، تشبه أجواء قصص تشارلز ديكنز، وأجواء مصنع الدهان الأسود. وأدركتُ أنَّ عليّ أنْ أجتاز امتحان الانتقال إلى المرحلة الإعدادية لكي أخرج من ذلك المكان، وإذا لم أفعل – كان كل شيء متوقفاً على ذلك – فسوف أبقى في تلك الأجواء إلى الأبد. وهكذا كانت اللحظة التي أبلغني فيها مدير المدرسة أني اجتزت ذلك الامتحان وانتقلت إلى المدرسة الإعدادية الكاثوليكية من أشد لحظات حياتي إحساساً بالتحرُّر. وحتى حينئذٍ كنتُ أعي المخاطر التي ينطوي عليها ذلك الأمر، ومعناه من الناحية الاجتماعية.

   كان والدي قد ترك المدرسة وهو في الخامسة عشرة. وتقول الشائعة العائلية أنه وصل إلى مرحلة الدراسة الإعدادية لكنه لم يتمكن من تحمُّل تكاليفها – كما كان عليهم أنْ يفعلوا في تلك الأيام – فلم يلتحق بتلك المدرسة. لقد كان حقاً رجلاً ذكياً جداً. عمل فيما كان في اعتقادي أكبر مصنع هندسي في بريطانيا: “ميتروبوليتان-فيكرز” في “أولد ترافورد”، مانشستر. التحق به كعامل يدوي، على الرغم من أنه لم يتحدث كثيراً عن هذا. ثم عندما كنتُ لا أزال طفلاً رُقّيَ إلى منصب مكتبي لا أهمية له، إلى فئة ذوي الرواتب. ولطالما رغبَ في أنْ يكون صاحب عمل، حسب تعبيره، وحراً بنفسه. وخاطر بسحب جزء من مبلغ تقاعده، الذي عدَّ ربما بضع مئات من الجنيهات، واشترى به دكاناً صغيراً في منطقة قذرة من سالفورد. تلك المنطقة ليس فقط لم يعُد لها وجود الآن، بل أعتقد أنها حتى في ذلك الوقت كانت على شفا أنْ تُهدَم. على أية حال، استمر في الكدّ، سعيداً لكونه للمرة الأولى سيد نفسه. لقد كان رجلاً مقداماً، رجلاً مُبادِراً وواسع الحيلة. وباللغة الطبقيّة، أعتقد أنه كان منجذباً قليلاً إلى البورجوازية الصغيرة petite bourgeoisie. لكنه لم يعش بعد ذلك أكثر من عام، لأنه توفي بمرض السرطان بعد عام من شراء ذلك الدكان. وحينئذٍ كنتُ أستعد للالتحاق بجامعة كمبريدج. بعد ذلك استلمت أمي زمام مواصلة الكفاح في الدكان فترة قصيرة من الوقت، قبل أنْ تنجح في بيعه. كانت قد أُصيبت بانهيار عصبي خطير. أعتقد أنَّ سببه بالدرجة الأولى أنه كان عليها أنْ تواصل إدارة الدكان ولم يتوفّر لها الوقت لتحزن على وفاة والدي. لقد عادت من الجنازة وفتحت الدكان. لم يكن أمامها وقت لتواصل عملها وهي حزينة ووحيدة.

   لم ينتم أبي إلى نقابة العمال. ولكن أعتقد أنَّ عائلته كانت تحمل إرثاً سياسياً معيّناً. إني لا أعرف الكثير عن آل إيغلتون – على الرغم من أنَّ لديّ ما يُشبه الاختصاصي في عِلم الأنساب الشخصي في أيرلندا يُزودني بمعلومات عن العائلة – ولكن كانوا في معظمهم متمردين في أواخر القرن التاسع عشر. هناك مورّثة راديكالية في العائلة…. وعلى الرغم من أنَّ والدي لم يكن ناشطاً سياسياً، إلا أنَّ لآل إيغلتون سجلاً سياسياً راديكالياً. وكان والدي يتحدث أحياناً في السياسة فيقول ” أعتقد أنَّ يسوع المسيح كان اشتراكياً “. وهذا القول كان يُعتَبَر في تلك الأيام، زمن الهيمنة الكاثوليكية المُطلقة – وقد كان كاثوليكياً أورثوذوكسياً صِرفاً – قولاً مُدهشاً حقاً. كان رجلاً هادئاً عميق التفكير، يُكثر من التفكير في الجور الاجتماعي، لكنه يواجه صعوبات جمّة في التعبير عن نفسه. وكان يكره عمله في المصنع كراهية شديدة.

   لديّ أختان، واحدة أكبر مني، والأخرى أصغر. كانت أختي الأكبر، آني، أول مَنْ ارتاد الجامعة في العائلة. ذهبت إلى ليفربول لكي تدرس اللغة الإنكليزية، ولكن عندما توفي والدي احتاجت أمي إليها في إدارة الدكان، لذلك اضطرتْ إلى الانتقال إلى جامعة مانشستر، حيث لم يُسمح لها إلا بالحصول على شهادة عامة. إنها امرأة تتمتع بذكاء شديد ولامع، وبالكثير من الفطنة وبارعة في التشخيص وفي رواية القصص، وكان في وسعها أنْ تصبح بسهولة روائيّة أو صاحبة موهبة أدبية عظيمة ؛ ولكن للأسف، لم يتوفّر لها منفذ حقيقيّ. ولذلك انتقلت هذه المهمة، إنْ صحّ التعبير، إلى الأخت الصغرى، ميري، ناقدة مناصرة لحقوق المرأة، وهي الآن تعمل أستاذاً مساعداً في قسم اللغة في جامعة ليدز ميتروبوليتان. وهكذا اتَّضح أننا جميعاً من النمط الأدبي. وهذا أمرٌ مدهش قليلاً، لأنَّ والدي لم يكن ليفهم أو حتى يتعاطف مع ذلك. وهذا أدّى إلى نشوء ما يشبه النزاع بيني وبينه عندما بلغت سن المراهقة. وأعتقد أنَّ وفاته قبل الأوان كان يعني أنَّ ذلك النزاع لم يُحلّ، ولا أستطيع حقاً أنْ أبتّ فيه….         

______________________________

من كتاب “The Task of the Critic: Terry Eagleton in Dialogue”.

*****

خاص بأوكسجين

[1] – إصلاحيو مانشستر: حركة إصلاحية أقامت مؤتمرها التأسيسي في عام 1838، ونادت بتحسين أحوال العمال الاجتماعية والصناعية.                     – المترجم