أشياء صغيرة لا تُرى
العدد 205 | 17 كانون الثاني 2017
فتحية الصقري


لا أحد يعرف، حتى هذه اللحظة، سرَّ احتفائك الدائم بالحياة، ضحكتك المخلوقة من ضلع الصباح، جانبك المضيء، علاقتك الوطيدة بالألوان الربيعية، تمسُّكك بالصور المَرِحة، راقصةً ومختالة في أعماق أعماقك، وأنت خارج البيت، لا أحد يعرف قوة توازنك، مِن أين تنبع؟ ونشاط الانزلاقات في طبقات روحك ثابت بين متوسط وعال . لا أحد يعرف مواقيت حضور صوتك وغيابه، وسلطة مزاجه الصعب، ولماذا تحفظ خطوتُك عن ظهر قلب عناوينَ الطرق الطويلة ونهاياتها، لا أحد يعرف حجم  قوة الحب في انتظاراتك الناضجة، صبر مشيتك عليك، وصبرك على صبر أيامك، صحة توقك التي لا تتدهور، دقَّة حدسك وصوابه، إن مرَّ على  انبساط الوجوه وتعرُّجها، لا أحد يعرف سرَّ هروبك الدائم من “المجموعة” سرَّ انسحابك المفاجئ، سرَّ سكوتك، وقت تحرُّك العاصفة، عملك السِّري الدؤوب لتغطية كلِّ الفتحات والنوافذ، بسبب وبلا سبب، لا أحد يعرف حجم خوفك المضحك من الحشرات الزاحفة والصراصير ،اهتمامك المبالغ فيه بأنواع المبيدات الحشرية،  لا أحد يعرف سرَّ ملاحقاتك اليومية ،الشبيهة بإطلاق ألف أرنب دفعة واحدة داخل حقل مملوء بالجزر، لأعمال  تيم وولكر / كل ما يخص : تويجي / كيت موس /  سعاد حسني / مارلين مونرو / أسمهان / شانيل وفوج، لا أحد يعرف سرَّ شغفك المتواصل بالمشرق والفاتح في الأزياء والإكسسورات، والروج والكحل وظلال العيون، لا أحد يعرف حتى أولئك الذين تقول عنهم الصحف، كلَّ يوم، مثقفون، وتقول عنهم الجوائز الكثيرة شعراء، وتقول عنهم السِّيَر الذاتية كلامًا كبيرًا وخطيرًا، لا أحد يعرف؛ لأن القالب يصنع نسخة طبق الأصل، سيقرؤون الصورة بالطريقة ذاتها التي اعتاد عليها الجميع، سترتطم نظراتُهم  بالقشرة الخارجية، لن تعبر إلى الداخل، لن تصمت لتفهم، لن تكتشف ما لم يُكتَشف بعد، وأبدًا لن تعثر على الصندوق الأسود، ستموت معك كلُّ الحقائق؛ لأن يدها جامدة، وقلبها بلا قلب. 

لا أحد يعرف سرَّ ركضك اللاهث وراء أشياء صغيرة لا تُرى، سرَّ احتفاظك بابتسامتك في خيمة العزاء الكبيرة هذه، سرَّ “افتتانك” بمدينة لا تزورها بهجةُ الربيع، ولا تتدلَّى من شرفات منازلها الأغصانُ المحملة بالأزهار الملوَّنة، لا ينمو على عتباتها العشب، مدينة أُلقيت بكلِّ ما فيها لمزاج الصيف السيء، مدينة لا تسمح لك بالتجوُّل في أيِّ وقت، إذ يمكن أن تتحوَّل لقطعة لحم مشويَّة، خلال دقائق، يمكن أن تموت مقتولا بيد الحرارة الشديدة، وأنت تلقي بنفسك، في الساعة الثانية والنصف ظهرًا، داخل سيارة كانت طوال ثماني ساعات لعبة بيد الشمس، لا أحد يعرف سرَّ بقائك في مدينة يدفنها عشَّاقُها علنًا في كومة من القمامة، يتركون لها الهدايا المزعجة تحت الأشجار، وفي الوديان والطرق، ويرمون وجهها بالعلب والأكواب والأكياس البلاستيكية الفارغة والمملوءة، كلَّ يوم، ثم يكتبون في مواقع التواصل الاجتماعي: “أين عمَّال النظافة؟”، “المدينة تختنق”،  لا أحد يعرف سرَّ بقائك في مدينة لا يمكن أن تستضيف شوارعُها رقصة زوربا، أو هاويًا يجلس بمحاذاة الرصيف يعزف للمارّة، أو مشهدًا لعاشقين يحضنان بعضهما، مدينة تضمُّ طرقاتها وساحاتها جيشًا من العيون المفتوحة، تجدها مصوَّبة باتجاهك، مثل من يراقب بنهم تحرُّكات متَّهم بارتكاب جريمة ما، عند دخولك، وعند خروجك،  لدرجة أن تشعر بالرعب من فكرة أن تؤكل حيًّا،من فكرة أن تكون بعد دقائق  وجبة دسمة في جلسات النميمة التي تُعقَد باستمرار في غرف الواتساب، وفي اللقاءات السريعة بين من يمتدحونك، وبين من يكيلون عليك الشتائم، بين من “يحتقرك ويمتدحك في وجهك، وبين من يخشاك، ويتقوَّل عليك سرًا ” مدينة ملغَّمة بأصوات ثقيلة تنطلق فجأة لتسحق فراشة حطَّتْ على كتف عار، أصوات فجَّة متبِّلدة وقحة، تدوس بأقدامها الضخمة ورقة خضراء سقطت للتوِّ من نبتة جديدة، أصوات مريضة تفتح الميكرفونات ليلا نهارًا؛ لتسكب في أذنيك كومة من التُّرهات تقطع تأمُّلاتِك / نومك / أحلامك/ هدوءك، بالتهديد والوعيد، لا أحد هنا  يا عزيزتي يفرِّق بين الأصلي والتقليد، بين ما هو جوهري وما هو ظاهري، غارقون في الفوضى، غارقون في اللامعنى، غارقون في الكلام في النميمة، في قتل الوقت، مستمرون في حماية جودة المزيَّف، أولئك الذين يمضغون  علكة العيب والفضيحة، عند كل رفَّة جناح، أو حركة ضوء، يخترعون كلَّ يوم طرقًا جديدة  لقطع أقدام من يستعدُّ للرقص، لرجم الصوت الخارج من بيت الحب، يتكلمون بفظاظة عن الألوان، وعلى نحو سيء ومتنكر، حتى لو رفعت في وجوههم صورة جدَّتك أو أمك التي تتكلم عن حياة تنبض بالألوان والجمال والمرح، عن قصص العطور، وأدوات التجميل القديمة التي كانت تحظى باهتمام خاص، عن قصص الجلسات المشتركة للرجال والنساء، عن الضحك وأحاديث المودة والنوايا الحسنة، لن يتوقفوا عن الكذب، لا أحد يريد أن يتوقف يا عزيزتي، هنا سباق دائم وتنافس محتدم بين كلِّ الأطراف، كيف تصبح بطلا في عيون الآخرين؟ كيف تكون ببَّغاء ثرثارا طوال الوقت؟ كيف تطمس ذاتك، تصوُّرك الخاص، فكرتك عن الحياة والوجود؟ كيف تحذف صورتك الأصلية من مخيِّلتك؛ لتعبر الشارع بدون إصابات؟ كيف تتقن دور الحافظ والملقِّن؟   

لا أحد يعرف، لا أحد، لكنَّكِ بالتأكيد ستواصلين قطع الشارع  بكعبك العالي، وكحلك، وأحمر شفاهك الفاقع، وملابسك الملوَّنة، ستواصلين رعاية المطر في الصيف وتأمُّل الفراشات التي تحطُّ بشكل مفاجئ على زهرة في قميصك، تواصلين حشو أذنيك بالموسيقا، وأنت في انتظار التاكسي،  تواصلين كتابة قصيدة، لن تنتهي عن الولادة والموت وقفزة الحصان التي بينهما تواصلين اختصار إجاباتك “غير المقنعة” لأسئلة الفضوليِّين التي تطوِّق خصرك، مثل أسلاك كهربائية، تواصلين هوايتك القديمة، رسْم قلوب الحب باصبعك على الغبار الملتصق بزجاج النوافذ والسيارات، تواصلين التفكير بشراسة في حديقة البيت الخلفية في “تقطيبة جبين”، في “الحلوى العمانية”، في القهوة المرَّة، في تحيَّة النخلة الأبدية لموسيقا الجريان الهادئ في عروق الخطمين، في تقصِّي أثر البعيد والجميل في الفصل الأخير من حياة رجل مشغول، تواصلين الصمت والكلام، الضحك والبكاء، الذهاب والمجيء، الخوف والحلم، النوم والاستيقاظ، المشي والتوقُّف، الجِدّ واللعب، تواصلين الضغط على زرِّ أيامك بإبهام يدك اليمنى، في الساعة الرابعة صباحًا؛ ليخرج الموتى من قبورهم، تواصلين الموت والحياة على أرضيَّة قلقك الباردة، حافية عارية ووحيدة تلمُّك وتبعثرك الأغاني.

*****

خاص بأوكسجين


شاعرة من عُمان. صدر لها: "جمهور الضحك"" 2016، و""أعيادي السرية"" 2014، و""قلب لا يصلح للحرب"" 2014، و""نجمة في الظل"" 2011."