كيفَ لي أنْ أنام؟
تأثيرُ هذه الحبوب لا يناسِبني؛
إنّها فقط تجعل الأمر أكثر تعقيداً.
خدرٌ في رأسي، كلّ شيءٍ يدورُ حولي، وأنا ثابتةٌ أُنصتُ لإيقاع الدّوران.
حلْقِي متيبّسٌ، ودماغي لا يستطيعُ التّركيز على فكرةٍ محدّدة، أشعر تماماً كيف تتلاشى السّيالاتُ العصبيّة للأفكارِ بسبب تأثير “الأمبين”.
لساني عضلةٌ معطوبةٌ، أعجزُ عن تحريكها لتَرطيبِ فمِي الجافّ، جسمي كما الجثّة لا يستجيبُ لأوامِري بالحركة.
كلّ هذا الخَدر، ولا أستطيع النوم.
وحتّى حين أنامُ أحياناً، أشعرُ بكلّ شيءٍ حولي،
دبيبُ جارتِي في البيت المجاور، صوتُ السّيارات التي تَعبُر الشّارع المقابل، تَدفّقُ الماء في أنابيب التّدفئة، ردودُ أفعالِ سَقف البيت المهترئ على عوامل الطّقسِ.
وإن حدثَ مرّةً، وتوقّفَ كلُّ هذا الضجيج، أظلُّ أسمعُ صوتَ أنفَاسي وأشعرُ بحركةِ قفصي الصّدري وهو يئِنُّ، فما زال الأوكسجين قليلاً، على الرّغم من استنشاقي لزيتِ النعناع المركّز، في محاولةٍ يائسةٍ للاقتِناع “بأنّ في هذا الهواء ما يكفي من الأوكسجين لجميع الكائنات”.
يقولُ صديقي الأخصائيُّ النفسيّ، الذي طلبتُ مساعدتَه بحكمِ الحاجة، بأنّه يتوجّبُ عليّ التّوقفُ عن تناولِ تلك الحبوب الغبيّة التي تساعدني على النوم، وقد أقنعني بالفعل أنّ ذلك لن يجدي نَفعاً، وأنّ تغييرَ النّوع والكميّة، ما هو إلا إيحاءٌ كاذبٌ من الدّماغ، ولا يفيدُ إلا مافيات الشركات الدوائية التي تتاجر بنا، تلك الشركات التي تصنعُ أدويةً لكي نشعرَ عند تعاطيها بالخواء.
ثمّ نصحني، الصديقُ، بأنْ أُغيّرَ طريقة تفكيري قبل النّوم، لأنَّ النومَ وفقاً للنظرية: “هو عمليةٌ نفسيةٌ، أكثرَ منها عملية عقلية، وأنّ انصرافَ الدماغ عن موضوعاتِه يُسهِّل عليه النوم”.
وأردفَ، بناءً على النظرية إياها: “اِستحضري ذكرياتكِ الجميلة، وغُوصِي في تفاصيلها قبل النوم”.
حينَ حاولتُ أن أفعلَ ذلك، أتعَبتني التفاصيل.
قال لي “اِكتبي، اِكتبي عن أيّ شيءٍ، طفولتكِ.. هواجسكِ.. مخاوفكِ.. أحلامكِ، أفرِغي قلقكِ بالكتابة”.
وبعد كلّ محاولةٍ، كنتُ أسخرُ من كلِّ ما أكتب.
كيفَ لي أن أملكَ لغةً كافيةً لوصفِ الانكسار في عيني أبي وهو يغنّي لي أغنيةَ “يا ولدي”، كَرَدٍّ على اكتشافي المبكّرِ لعدمِ عدالةِ هذا العالم.
كيف لي أن أملكَ اللغة، لأصفَ رائحة الملّيسة تنبعثُ من صباحاتِ أمّي، وأيُّ مفردةٍ ستعبِّرُ عن هذا الإحساس بالتّشنج في أحشائي، الذي يُنذِرني دائماً بأنّ هناك شيئاً سيّئاً يحدثُ أو سيحدث – لا أعتقد أن كلمة “أحشاء” هي الكلمة المناسبة ولكنّها الوحيدة التي أعرفها للتعبيرِ عن شيءٍ داخليٍّ وعضويٍّ وغيرِ محدّدٍ.
تحاورْنا كثيراً، وحاولتُ العديد من النظريات، دون جدوى.
جعلتُ لي طقوساً محددة قبل النوم لعلّ تجربةَ بافلوف تكونُ أكثرَ نفعاً؛
لا جدوى.
يأسْتُ، أُنهكْتُ، وشتمْتُ صديقي الأخصائيّ ونظرياتِه، وبكيتُ بحرقةٍ عندما فاجأني وجهي بهالاتٍ سوداءَ حول عينيّ، كدليلٍ جازمٍ على الأرق.
لستُ مقتنعةً بما قالهُ الباحثون ولا بنظرياتِ علم النفس تلك؛
فأنا.. أنا، لي ذكرياتي وتجربتي وتاريخي، هناك أشخاص آلموني وآخرين آلمتهم.
أنا ابنة ُامرأةٍ ريفيّةٍ، حساسةٍ، مثقفةٍ، بكّاءةٍ، جميلةٍ،
في النّهار تُرافِقها رائحة الطبخ والكلور، وفي ليالي العشقِ تَنضحُ بالأنوثة، وتفوح منها رائحة الليمون، هي تدركُ بغريزتِها كيفَ تكونَ امرأةً، لكنّها لم تعرفْ، ولم تلقّنها جدّتي تعاليمَ الأنوثة اللازمةِ لرجلٍ يُغريهِ الغنج، فاتخذتْ قرارَ الوحدة، وقرّرتِ الموت وحيدةً.
ابنة لرجلٍ كان مقتنعاً أنّه ورِفاقَه قادرون على بناء “وطنٍ حرٍّ وشعبٍ سعيد”، رجلٍ حَلِمَ بذلك، وأورثني رفاهيةَ الأحلام، ثمَّ اتخذ قراراً بالموت وحيداً، مُعترِفاً بهشاشةِ أحلامه، ماتَ بعيداً دون أن نسخرَ سويّاً من ماركس والمجلدات العشر للينين، وسقوطِ أحلام جيله مع الاتحاد السوفيتي.
مات دون أن نسخرَ من كلِّ أحلامنا سويّاً، أنا التي رأيته يجهشُ بالبكاء كالأطفال وهو يُصغي لمظفر النوّاب، ويشتُمُ “أبو عادل”، من شدة ما آلمته القصيدة التي تمتلئ ذاكرتُها بأدقِّ التفاصيل، وتَنسى الحدث.
أنا الابنة الوسطى، لي شقيقتين، واحدةٌ يُتعبُها الحنين وأخرى يغرِيها الألم، أحببتُ رجلاً واحداً في حياتي، وكنتُ أسوأ امرأةٍ في حياته..
فهل أخذَ علم النفس ذلك في حسبانِه؟
هل لديكَ نظريّةٌ لشخصٍ ينتمي إلى كلِّ هذا؟
هل لديكَ وصفةٌ تشفي هذه الذاكرة؟
أريد فقط لو أنام.
*****
خاص بأوكسجين