“جرفنا النهر مراراً! كنا نتطلع إلى الجسر غير آبهين بالضفاف ولا متعلقين بقشة…وقد كان الغرق شفيعنا”.
أستعيد هذا الذي كتبته منذ أكثر من 14 سنة وأنا أشاهد فيلم يي لو البديع “نهر سوجو” Suzhou River، وأتساءل أي نهر هذا الـ “سوجو” وقد حملت مياهه جثة عاشقين انتحرا سويةً! لابد أن الغرق كان شفيعهما، ووجدا في الجسر معبرهما إلى حياة أخرى غير آبهين بالضفاف ولا متعلقين بقشة!
أي قصة حب سيرويها الفيلم! واللقطات تتوالى كما لو أننا حيال فيلم تسجيلي يوثّق النهر وناسه، الكاميرا محمولة واللقطات مهتزة، وصوت الراوي يقول إن تأملت النهر فسترى كل شيء في الحياة: العمال والأصدقاء والعشاق والعائلات، ولتتابع اللقطات، وهي تجسد المروي، والنهر مُنهك متعب متهتك منذ قرنٍ من الزمن، والزوارق تمخره طولاً وعرضاً محمّلة بالبضائع والفحم وما شئتم من سلع؛ إنه “أقذر نهر في العالم” على حد وصف الراوي، ولكنه يحمل “قرناً من الحكايات والنفايات”، وعلى ضفافه ستندلع أجمل قصة حب، أجمل ميلودراما، وسنشاهد فيلماً رقيقاً مترقرقاً لا يعوقه ما يحمله نهر سوجو من أعباء البشر والزمن، لا بل سيكون مكمّلاً للحكاية، فضاء واقعياً حيوياً لها، وهي تحدث في ضواحي صناعية، وأحياء أبنيتها متآكلة متداعية.
سيبقى الراوي مهيمناً، وسيتولى سرد ما نراه من وجهة نظره بصرياً، هو مصوّر الفيديو، الذي ما إن يتلقى اتصالاً من “حانة السعادة” حتى تبدأ قصته بمجرد رؤيته “الحورية” أو التي تغوص في حوض زجاجي يتوسط الحانة مرتدية زعانف حورية، فيقع في غرامها! إنها ميمي التي سيهيم عشقاً بها، هي التي يهبط عليها الحزن فجأة وتختفي لأيام، وحين يكاد الشوق أن يقتله تظهر، وهي تقول له إن اختفيت هل ستبحث عني كما فعل ماردار.
يكفي أن تتلفظ باسم ماردار حتى يستيقظ الفضول؛ من هذا وما هي قصته؟ والمعادل الفيلمي لذلك هو استخلاص واحدة من المرات التي تهجر فيها ميمي الراوي، فنجد أنفسنا حيال لقطات متوالية تكاد تكون لقطة واحدة، لميمي هي التي تشابك ذراعيها حين تمشي، والمارة حولها في الشارع والنهر يرافقها، وصولاً إلى الشقق، ومن ثم نقع على فتاة في مقتبل العمر، فإذا بها تقودنا إلى قصة ماردار (هون شانع جا)، العاشق الولهان، الذي سيرتكب أكبر الحماقات بحق حبيبته مودان التي تشبه ميمي كما لو أنها هي، وقد جسدت كلا الشخصيتين شوين جو.
لن أخوض في ما سيمضي إليه الفيلم من قصة حب ماردار الذي سيبحث عن حبيبته كل ما تبقى من حياته، فلكم أن تشاهدوا وتعرفوا، بينما راوي الفيلم يجد ما يربطه قصة حبه بقصة ماردار، فإذا بنا حيال امرأتين كما لو أنهما امرأة واحدة، أو أن غواية جمال تلك القصة قادته إلى أن يجد رابطاً بها، فلا يكون إلا متداخلاً معها، وثيق الصلة بما ستصل إليه نهاية الفيلم التي مهّد لها ونحن نحسبه فيلماً تسجيلياً.
أهم ما في الفيلم هو السؤال الجوهري الماثل في كيفية سرد القصة، أي نعم إنها قصة بديعة وقوية تلك المتصلة بماردار، لكن المدهش كيف انتقلنا إليها ببضع لقطات، وإضاءة الفيلم التي توحي بأن شنغهاي مدينة غائمة على الدوام، وما يمسي ساطعاً يكون في مشاهد داخلية، وقد صوّر يي لو الفيلم بكاميرا 16 مم محمولة.
يتوقف الراوي عن السرد حين يخرج ماردار من السجن ويبدأ في رحلة بحثه عن مودان، يقول “عليه أن يروي حكايته بنفسه” إلى أن تلتقي قصته بقصة الراوي، جراء الشبه بين ميمي ومودان، فهل سيستعيد ماردار حب حياته الضائع!
*****
خاص بأوكسجين