نظرة رقمية على مفاهيم غودار الثورية
العدد 279 | 22 أيلول 2023
زياد عبدالله


ها أنا أمام أهم التجريبيين في السينما جان لوك غودار(1930 – 2022)، والذي يقول عنه المخرج قيس الزبيدي إنه “مزيج من سينما فيرتوف: (سينما الحقيقة) تسجيل صورة الواقع، وسينما وارهول: تسجيل الزمن الواقعي، ومسرح بريشت (التغريب)”، واقتباس ذلك كبداية، يأتي كمعبر إلى أغراض أخرى غير مقاربة عالمه السينمائي، وبعيداً عن خوض غمار شيء مثل مقاله المفصلي في تاريخ السينما “المونتاج، همّي الجميل” أو علاقة المخرج مع مواده الملموسة، بل لمعاينة أفكاره الثورية، و عبر ملمح واحد منها متصل بالمتغير في العالم، هو الذي كان إله التنظير بحق، ومن أولئك الذين ترسخ أقوالهم عميقاً، فإن خرجت إلى السطح؛ تجدها يانعة وناضجة وبنت عصرها.

وأنا في هذا السياق أجدني غارقاً في كتابه “غودار يكتب عن غودار” حيث يصدّر الجزء الثاني منه ببيان يقول فيه إن السينما الأميركية “إمبراطورية تسود العالم، وعلينا رغم جهودنا المتواضعة، أن نخلق فيتنامين ونناضل في سبيل خلق صناعات سينمائية وطنية حرة، متآخية رفاقية!” وفي تتبع لهذا النفس الثوري أجدني أعاين أفكاراً استثنائية وثَّقها في ذلك الكتاب، حين قال “إن على الفيلم أن يتحول إلى منشور سياسي”، ومقاربات أخرى أجدها قد تحققت في عصر ما بعد الحداثة، لكن في سياق آخر، فما حلم به غودار وآمن بأنه في طريقه للتحقق كان مبنياً بمجمله على تطلع تحرري يطوّع السينما لتكون أداة فاعلة في الصراع الطبقي، والصراع ضد الاستعمار والامبريالية، وكل ما يجعل من السينما أداة تغييرية، وليس بما يخدم الرأسمالية ونزعة الاستهلاك التي تسيدت كل شيء، بحيث تحولت الصورة وصنع فيديو مع الاجتياح الرقمي ومن ثم الاكتساح الافتراضي المتمثل بوسائل التواصل الاجتماعي، إلى عملية أسهل من كتابة رسالة أو تدوين ملاحظة في مفكّرة، وقد أصبح بمتناول الجميع أن يصوّروا وينشروا شيئاً يسمّى “فيلماً” أو “منشوراً”، لا يتجاوز الدقيقة، وعلى شيء مما دعا إليه غودار عام 1969 أي أن يصبح المشاهدون أنفسهم صنَّاع أفلام.

لقد أصبحت الثورة الرقمية ومنصاتها المتعددة، تتيح لأي كان مشاهدة أي شيء يحدث في أبعد نقطة في هذا الكوكب، وأن يتولى تصويره صاحب العلاقة أو الشاهد على الحدث مباشرة، وهكذا أصبح من اليسير أن نشاهد مجزرة ونتبعها بمشاهدة بزفاف ملكي، والتعرف على فصائل جديدة من التماسيح والقردة، وملاقاة أعظم آكل للنودلز، ونشطاء حقوقيين ورواد فضاء ورجال أعمال والمخلّص إيلون ماسك وأحد عشر راقصاً مع أحد عشر قاتلاً وحيوات ومآسي ومهازل…إلى ما لا نهاية.

وفي الوقت نفسه فإن ما تقدّم لا يلغي سؤالا “غوداريا” بامتياز ألا وهو ما الذي تغير في العالم جراء ذلك؟ ولعل الإجابة بأن شيئاً لم يتغير على أرض الواقع أمر مبالغ به، لكن حجم ما تغير على أرض الواقع لا يضاهي حجم ذلك التطور التقني والبصري، والشفافية التي وفَّرها هذا التطور لمن يريد معرفة ما يحدث في هذا العالم، أو تحري الحقيقة! إلا أنها حوّرت لخدمة غايات أخرى لا تنعكس على أرض الواقع لانعدام القوى الواقعية المؤثرة، فالأمر لا يتعدى على الصعيد الفكري أفكاراً لتطوير الذات، ومحاربة الفشل الشخصي بالوقف أمام المرأة وترديد “أنا لست فاشلاً”، أو كيف تجني ثروة في خمسة أيام،  وطرح أفكار بديلة عن القضايا الجوهرية، ومواعظ تطريبية و”اختزال مفهوم الطبقية الباهت بعدم الشعور بالتفوق الاجتماعي على الآخرين” كما يقول تيري ايغلتن عن ما بعد الحداثة، واحتكار الظلم والاضطهاد من قبل أقليات وتوفير آليات تحدد من يجب أن يحمل هاتين الصفتين ويُحرر منهما، والتجاهل التام لجحافل الأكثرية المفقّرة والمضطهدة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، بحيث أمست المناداة بالعدالة وتكافؤ الفرص على شيء من المطالبة بتشييد قصورٍ في الهواء، والفقر والتباين الطبقي في اتساع، والجنوب جنوب والشمال شمال، والحروب متاحة ومزدهرة وتحديداً في منطقتنا العربية، فما تخلقه الرأسمالية تتحكم به كيفما شاءت، وبالتالي جُرِدت منصات البث الرقمي وفيديوهات التواصل الاجتماعي من قيمتها الفاعلة وساد ما لا يتجاوز “الفرجة” دون أثر، أو للترفيه والتسلية، بما جعل البشر عبيداً لها، وهواتفهم لا تفارق أيديهم، للا شيء سوى تزجية الوقت.

أضع أفكار غودار كما وردت في مقالة له في أكتوبر عام 1969 لأدلل إلى أن ما يحدث الآن هو تماما ما أراد للفيلم/المنشور أن تصير إليه، لكن مع نزع كل ما يطمح إلى تحقيقه من تغيير، فغودار كان يطمح بقوة أن يتم تدمير مفهوم دار العرض السينمائي، وأن تتحول السينما إلى منشورات بحيث يمكن لعرض فيلم أن “يجري في الشقق السكنية والاجتماعات. ويمكن مبادلتها مع أفلام أخرى. يجب صنع الأفلام جماعياً وحول فكرة سياسية، على غرار الفروض المدرسية التي يتشارك الطلاب في حلّها، فأنا أعتقد أنه يجب صنع الأفلام بالتشارك مع الذين يشاهدونها.”

يقول غودار في تلك المرحلة إن الرأسمالية فرضت فكرة الكاميرا اللعبة، التي تتيح لأي شخص أن يصور ما يرغب به ومشاهدته بينما يتناول العشاء مع أسرته، طبعا الآن تخطى الأمر ذلك بمئات المرات، هو الذي كان يعتقد بأن عليه وجميع من يؤمن بربط الصورة بالنشاط الثوري استغلال ذلك التطور واستثماره في “أن نعيد الإفصاح في الكلام، ومعرفة ما الكلام الذي كمّت الأفواه دون أن يقال، والمعوقات والمعاناة التي يفرضها القدامى على الجدد للحيلولة دون أن يقال”. ولربط ذلك ببعد غودار الأيدلوجي فإنه يضيف “من أجل صنع فيلم صائب من الناحية السياسية، ينبغي الارتباط مع الأشخاص الذين نرى فيهم أنهم يتمتعون سياسياً بالموقف الصائب. والمقصود: أولئك الذين يعانون الاضطهاد، ويكافحون القمع، فيضع المرء نفسه في خدمتهم. التعلم منهم وتعليمهم في الوقت نفسه. والتخلي عن صنع الأفلام. وهجران مفهوم المؤلف طبقا لما كان هذا المفهوم عليه.”

كل ما تقدم ملامح من اختبارات غودار السينمائية، ويبقى المهم في ما نشاهده الآن، وهو في متناول الجميع، ومن يعانون الاضطهاد يخدمون التفاهة المطلوبة من قبل مضطهديهم، وهكذا يصبح حلم الفقير المهمّش أن يصبح “ترند”، بينما يسعى آخر بأن يقبر الفقر بتلة من “اللايكات”، وللجميع أن يشاهدوا أي شيء عن أي شيء: عملية سطو على بنك في نيويورك ، مجزرة تحدث في سورية أو فلسطين  أو العراق، أو نحر أحدهم في بث حي ومباشر… ومواصلة احتساء قهوته الصباحية، وفي منحى آخر له أن يشاهد أيضاً أجمل خاروف في العالم، وفيديوهات بلا منتهى لأجمل الجراء والقطط، وتلك “الأفلام” مثل أرغفة الخبز، كما شاء غودار للفيلم/المنشور أن يكون؛ أرغفة نلتهمها يومياً، إلا أنها حُوّلت إلى أرغفة افتراضية، كل غايتها جميع أكبر قدر من اللايكات، وأن تكون صائبة ترويجياً في جماليات ما بعد الحداثة.

*****

خاص بأوكسجين


كاتب من سورية. مؤسس مجلة أوكسجين ومحترف أوكسجين للنشر. صدرت له العديد من الروايات: "سيرة بطل الأبطال بحيرة الانكشاري ومآثر أسياده العظام (1984 هـ)" – (2019)، و"كلاب المناطق المحررة" (2017)، و"ديناميت" (ط1: 2012. ط2: 2018)، و" برّ دبي" (ط1: 2008. ط2: 2018). وله في القصة القصيرة: "سورية يا حبيبتي" (2021)، و"الوقائع العجيبة لصاحب الاسم المنقوص" (2016). كما صدر له شعراً: "ملائكة الطرقات السريعة" (2005)، و"قبل الحبر بقليل" (2000). من ترجماته: "محترقاً في الماء غارقاً في اللهب-مختارات من قصائد تشارلز بوكوفسكي" (2016)، و"طرق الرؤية" لجون برجر (2018)، و"اليانصيب وقصص أخرى" لشيرلي جاكسون (2022). وله أيضاً كتاب مختارات من التراث العربي بعنوان "الإسلام والضحك- نواضر الخاطر في كل مستطرف باهر" (2018)،  و"لا تقرأ هذا الكتاب إن لم ترَ من السماء إلَّا زرقتها" (2023) الصادر عن محترف أوكسجين للنشر.