عزلة مرقّطة بها
العدد 242 | 17 آذار 2019
زياد عبدالله


عرفتني في تلك الأيَّام الحالكة من دون أن تعدني بضوء أو تشي بخلاص، بل وطَّدت نفسها على الحلكة مباشرة، وانتصرتْ إلى ما أنا فيه.

قالتْ: خذْ ما أنتَ فيه مثلاً واتبعه ولن يفضي بكَ إلى مكان.

وأضافتْ: اتخذ أمثلةً قريبةً وأخرى بعيدة ولن تفضي بك أيضاً إلى مكان. اتبع ما هو قائمٌ وما هو مقبل، تراجع وتقدّم، ولن تخطو سوى بضع خطواتٍ تقودك من غرفةٍ إلى أخرى في الشقَّة ذاتها التي تطل جانبياً على بحيرة اصطناعيَّة مالحة، استجرَّت لها المياه من البحر.

وهكذا انقضت أيَّامٌ متأخرةٌ وحلّت مكانها أيَّام ٌساكنة، لا تستدعي الخروج من السرير إلا استجابةً لحدثٍ جللٍ يتمثّل بتذكُّرنا ضرورة فتح الستائر أمام ضوء النهار من دون أن يعني ذلك استقبال يومٍ جديد! فقد كان الإصرار شديداً ومبهجاً على تشابه الأيام والحرص على ألا يحدث ما يستدعي احتساب الوقت، وتقسيم اليوم إلى فترات أو مواقيت، فكان الليل يتداخل مع الظَّهيرة، وتستولي على الغروب إشراقات تتبدَّى نداءات استغاثة شمسيَّة، وفي إحدى المرَّات تبادرت إلى ذهننا الصَّلاة فصلَّينا الظُّهر عند مطلع الفجر، أتبعناها بدعاءٍ صادقٍ لم نطلب فيه سوى أن يحافظ الإله على هذه العزلة ويصون ما نحن فيه، وأن يهب تفرُّغنا للملذَّات مساحةً أكثر رحابة، وألا يقتصر على السَّرير أو الأريكة، وأن ينتقل إلى الحمَّام والمطبخ وسائر أركان البيت وزواياه، وقد استجيب لنا بأن حصلت واقعة غرامية على الغسَّالة وأخرى داخل الخزانة، واستنتجنا على نحو أكيد بأن الأمر مرتبطٌ بالثياب التي لم تُمنح سوى فرصاً قليلة لتتواجد في أيامنا.

بدا الخروج كارثةً مؤجَّلةً، والبشر فزَّاعات بلا حقول، فاستقدمنا ما نشاء من حشود، وتركنا لهم أن يصرخوا، وكان لديهم مطالب محقَّة، تبين بأنهم لا يريدون إلا المطالبة بها، وأن تجمهرهم لأجل التَّجمهر فحسب، كما لو أنها أمنية وتحققت فحسب، فشتتنا شملهم، وبتنا نطاعن “خيلاً من فوارسها الدهر”، نسمع صهيلاً من تأليفنا، ونصوغ موسيقى تصويريَّة لما نريد له أن يُرى، ونواري ما رغبنا بأن ينقضي.

وذات مرة قررت حبيبتي أن نفارق النوم لأيامٍ كثار وطوال، عملت فيها على تحديد مهام الأرق وحصرتها بأن يكون مضيئاً وأدخلتْ عليه تعديلاتٍ بات فيها هانئاً تتخلَّله أحلامُ يقظةٍ تتفوق على تلك التي تتسرب إلى النوم، أما على صعيد الطعام فقد قامت بزرع نبتةٍ عجيبةٍ في أصيص، تكفي وريقةٌ واحدةٌ منها للشبع والارتواء، وهي تتجدد وتنمو إلى ما لا نهاية.

لا أعرف من أين أتت بأكداسٍ وأكداسٍ من الأوراق، لكنها ملأت غرفةً كاملةً بها، ومن ثم اختفت وقد خلّفت رسالة تقول فيها: “اكتب واكتب واكتب (مكررة ثلاثاً) ولا تبالي بأحد!”. بدايةً كتبت كالمحموم كما لو أنني بذلك أستدعيها، ثم نسيتها، وبت أكتب كالمحموم فقط، ولا أستدعي في ذلك إلا نفسي المرقَّطة بها.

 

 

 

 


كاتب من سورية. مؤسس مجلة أوكسجين ومحترف أوكسجين للنشر. صدرت له العديد من الروايات: "سيرة بطل الأبطال بحيرة الانكشاري ومآثر أسياده العظام (1984 هـ)" – (2019)، و"كلاب المناطق المحررة" (2017)، و"ديناميت" (ط1: 2012. ط2: 2018)، و" برّ دبي" (ط1: 2008. ط2: 2018). وله في القصة القصيرة: "سورية يا حبيبتي" (2021)، و"الوقائع العجيبة لصاحب الاسم المنقوص" (2016). كما صدر له شعراً: "ملائكة الطرقات السريعة" (2005)، و"قبل الحبر بقليل" (2000). من ترجماته: "محترقاً في الماء غارقاً في اللهب-مختارات من قصائد تشارلز بوكوفسكي" (2016)، و"طرق الرؤية" لجون برجر (2018)، و"اليانصيب وقصص أخرى" لشيرلي جاكسون (2022). وله أيضاً كتاب مختارات من التراث العربي بعنوان "الإسلام والضحك- نواضر الخاطر في كل مستطرف باهر" (2018)،  و"لا تقرأ هذا الكتاب إن لم ترَ من السماء إلَّا زرقتها" (2023) الصادر عن محترف أوكسجين للنشر.