نميمة الفزاعات
العدد 220 | 14 تشرين الأول 2017
مصطفى النفيسي


الفزاعة الأولى تتحدث وهي تكاد تنفجر من الضحك:

أستطيع أن أصدق كل شيء إلا انها قد أقيلت. لا أحد يستطيع تصديق ذلك إلا هي. فهي تعرف أن خطوط كثيرة تم مسحها من خريطة طريقها. وطرقات كثيرة وصعبة كانت تنوي طرقها لكنها انسحبت من أمام عينيها مثلما تنسحب أشعة الشمس في المساء إلى المجهول. لا أحد يدري تحديدا ماذا يحدث للشمس بعد حلول الظلام .كوبيرنيك نفسه سيبدو متشككا حينما سيقدم عرضا مختصرا عن علاقة كروية الأرض بألوان الشمس. هي نفسها لم تتساءل أبدا عن أهمية الشمس في انضاج ثمار شجرة أو في استصدار حكم عن الوقت من فم كاهن قديم. ولكن هل تمتلك الفزاعات إحساسا بالوقت؟ هل يمكن لفزاعة مثلا أن تستمتع بمنظر الغروب؟ تساءلت بخبث شديد.

لقد سمعت الخبر في التلفاز ولم تكلف نفسها حتى تعب الاستمرار في تتبع نشرة الأخبار. لقد اكتفت بذلك الخبر. إنه الخبر الذي كانت تنتظره منذ مدة. لكنها عنيدة طبعا. كانت ستكذب الخبر لو كانت قد قرأته في موقع الكتروني محلي. ولكنها سمعته في قناتنا المبجلة والكريمة. قناة لكل الفزاعات. قناة للشفافية التي حلم بها الأجداد الذين عاشوا في الظلمات حينما كان الرقاصون هم الصحافيون الوحيدون في هذا الحقل السعيد والذين لم يكونوا بحاجة إلى ترخيص بطاقة صحافي كي ينقلوا أخبارا عاجلة للفزاعات الصالحة القابعة في غرفها الموشاة بالخوف والقلق الدفين. أما هي فقد عاشت في زمن عجيب يعج بالإشاعات والأخبار الزائفة. لكن خبر اقالتها لم يكن مزيفا. كانت ليلة مشهودة بالنسبة إليها. ليلة لا كالليالي الأخرى. فهي ستضطر لامتهان مهنة أخرى غير أن تكون فزاعة في حقل فسيح يعج بثرثرة الغربان و طنين النحل الذي يقلق قيلولتها حينما يتعبها التحديق في خطط الفراشات. قيلولة كانت تستمر إلى المساء أحيانا اذا لم يأت ذلك الضيف الثقيل المسمى بالمطر – خاصة إذا كان مرفقا بحذلقة الرعد – أما في الصيف فلا شيء يزعجها سوى الوحدة والقلق.

ما قيمة الشمس إذن بالنسبة لفزاعة؟ ما قيمة الشمس إذن بالنسبة إلى فزاعة؟ – كررت ذلك – ألا تعني لها الشمس فقط ذلك السجّان الذي يراقب أنفاسها ويمتحن قدرتها على الاصطبار والعمل المضني؟

 

الفزاعة الثانية تتحدث وهي تكاد تجهش بالبكاء :

هل هي بريئة إذن؟

انها مذنبة. وهي ليست بريئة على الأقل. ليست بريئة من هذا النكوص في الإقبال على الحياة .فالفزاعات الصغيرة قد أصيبت بالذهول و بهبوط حاد في المعنويات ما دام لا شيء واضح أمامها الآن. فمعالم الطريق إلى المستقبل مبهمة. وباحات الذهن مكتظة بأفكار سوداء تحتاج إلى مبيض طبي وربما فقط لأحد مساحيق التصبين الكثيرة. أحس وكان الجميع في حاجة لأن يضع قلبه في آلة غسيل ويطلق العنان لمؤشر الحرارة والتنظيم الآلي ليرى إن كان سيستعيد عافيته و يباشر حياته بنفس الشروط التي كان يمارسها بها قبل أن نصاب بشخصها المربك. لأنها لا تختلف عن النهر الهادر الذي لا يتوقف عن الجريان طيلة أيام السنة والذي لن تضاهيه انهارنا الوطنية الطيبة والتي تنساب بهدوء تام. هذا لا يعني أن الحياة قبلها كانت من ذهب ولكنها لم تكن من حديد حارق مثلما هي الآن، بحيث لا تختلف عن العقوبات التي تعرض لها سيزيف.

ولكن كيف يمكن لفزاعة أن تشبه نهرا ؟

 

الفزاعة الثالثة تتحدث بشماتة :

لقد اعتقدت أنها واسعة الرؤية وأن نظرتها لا تحدها اي شيء. لو كان علم بها غاليلي ماكان ليخترع منظاره الشهير. كان سيجمع حوله تلامذته وادعياءه وسيقول لهم: “كنت بصدد اختراع منظار سيفيد الفزاعات في تبين مسارات طيران الغربان في الفضاءات العالية و مراقبة الفلاحين حينما يخرجون من منازلهم قبل مباغتتها في نوبات حراستها ولكنني علمت بأن فزاعة ما ستترأس جوقة الفزاعات،حيث ستكون رؤيتها ثاقبة تفوت رؤية مخبر سري. لذلك فإنني أعدل عن ذلك الآن.” لكن غاليلي اخترع منظاره المعروف لأنه أدرك ببديهته اللاتضاهى أن نظرة الفزاعات تصيدية وملتوية؟

“ولكن ماذا ترى الفزاعات تحديدا؟” أضافت بامتعاض.

 

الفزاعة الرابعة تتحدث بحياد تام يكاد يشبه حياد مجيب آلي في هاتف محمول:

إنني لا اخاف عليها من أي شيء سوى من تأنيب الضمير الذي سيعكر صفو حياتها وسيجعلها -لن أقول كالعلقم لأنها ستصبح أسوأ من ذلك – لا تختلف عن حياة أي فزاعة عادية تعاني الأمرين طيلة أيام الأسبوع وخلال كل ساعات النهار الأربع والعشرين، أي بدوام كامل غير منقوص. فهي طبعا استطاعت أن تؤمّن مستقبلها بحيث لن تنال منها نوائب الدهر قيد أنملة. لكنها لن تنجو من جلد الذات. هذا العذاب الذي سيطوق حياتها من كل جوانبها جاعلا منها مجرد مستنقع مليء بالطحالب أو على الأرجح سيجعلها كابوسا طويلا لن تنجيها منه سوى صرخات ليلية مكتومة وهي تنادي على كل الأولياء الصالحين. إنه كابوس حقيقي ستعيش تفاصيله كلها وهي تضرب من حين لآخر -لكن بقوة وبسخط أحيانا – على فخذيها دلالة الغبن ودلالة أنها تعرضت لضربة شمس مريرة في يوم صيفي لم تتناول فيه فطورها الدسم كالمعتاد ملقية عرض الحائط بكل نصائح الأطباء والتي تحذر من السمنة وأمراض الشيخوخة؟

ولكن هل تشيخ الفزاعات؟او على الاقل: هل تصاب بالسمنة؟

أعقبت جلسة النميمة هذه قهقهة طويلة لا تليق بفزاعات أصيلة.

*****

خاص بأوكسجين

 


كاتب وقاص من المغرب. من اصداراته مجموعة قصصية بعنوان "تطريزات على جسد غيمة""."