عن مجزرة تشارلي إيبدو
العدد 165 | 21 كانون الثاني 2015
سلافوي جيجك/ترجمة:عزة حسون


إنها اللحظة المناسبة لاستجماع الشجاعة والتفكير، بينما نحن وسط حالة من الصدمة بعد موجة القتل التي اجتاحت مكاتب “شارلي إيبدو”، علينا بلا شك و بشكل علني إدانة عمليات القتل بوصفها اعتداء على كل ما تعنيه الحريات، و علينا ادانتها من دون أي تلميحات خفية على شاكلة ” بغض النظر عما حدث فإن مجلة شارلي إيبدو كانت مثيرة للحفيظة ومهينة للمسلمين كثيراً”. ولكن لا يكفي وجود هذه المشاعر من التعاضد العالمي، يجب علينا أن نفكر بشكل أعمق.

ومثل هذا التفكير لا علاقة له بأي شكل بالحيثيات غير المهمة للجريمة كالقول “من نحن في الغرب حتى ندين مثل هذه الأعمال، وقد ارتكبنا مجازر رهيبة في العالم الثالث،!”، وهذا لاعلاقة له أيضاً بالخوف المرضي للعديد من اليساريين الليبراليين الغربيين من أن يكونوا متهمين بـ “الإسلاموفوبيا”. فهؤلاء اليساريين المزيفين يرفضون أي نقد للإسلام على أساس أن أي نقد سيكون تعبيراً عن ” الإسلاموفوبيا” الغربية، وقد تمّ التنديد بسلمان رشدي لأنه أثار حفيظة المسلمين بلا داعٍ وهو بالتالي – جزئياً على أقل تقدير – مسؤول عن الفتوى التي صدرت بحقه وحكمت عليه بالموت. ونتيجة مثل هذا الموقف ما يتوقعه المرء في مثل هذه الحالات: فكلما تعمّق شعور اليساريين الليبراليين الغربيين بالذنب كلما علت اتهامات المتطرفين الاسلاميين لهم بالنفاق، وبأنهم يخفون حقدهم على الإسلام. وهذا ما يولد التناقض في الأنا العليا: فكلما ازدادت طاعتك لما يطالبك به “الآخر”، كلما ازداد شعورك بالذنب. و يصبح الأمر وكأنك كلّما تحملت الإسلام كلما ازدادت قوة ضغطه عليك..

و لهذا السبب لا أجد دعوات كافية للاعتدال بما يتوافق مع إدعاء سايمون جينكز  ( في صحيفة الغارديان عدد 7/1/2015) بأن مهمتنا ” ليست المبالغة بالفعل أو التوعية بالعواقب، بل التعامل مع كل حدث على أنه حادث رعب عابر”، ولكن الهجوم على مجلة “شارلي إيبدو” ليس “حادث رعب عابر”. فالهجوم على “شارلي إيبدو” يتبع أجندة دينية وسياسية، وهي بالتالي جزء من نموذج أوسع.  لا يجب بالتأكيد أن نبالغ في ردة الفعل، إن كان هذا يعني الاستسلام لخوف أعمى من الإسلام “الاسلاموفوبيا”، بل علينا و بكل دقة تحليل هذا النموذج.

و ما هو ضروري حقاً ليس وسم الإرهابيين بصفة المتعصبين الانتحاريين البطوليين بل ضحد هذه الخرافة الشريرة. رأى فردريك نيتشه منذ زمن بعيد أن الحضارة الغربية تتحرك باتجاه “الإنسان الأخير” وهو مخلوق لا يملك شغفاً ولا التزاماً، ولأنه عاجز عن الحلم ومتعب من الحياة فهو يرفض المخاطرة و يسعى فقط إلى تحقيق راحته وأمانه: ” القليل من السّم بين الحين و الآخر يجلب أحلاماً هانئة، و الكثير من السم في النهاية يجلب موتاً هانئاً. كانت لديهم ملذاتهم الصغيرة في النهار وملذاتهم الصغيرة في الليل، و لكنهم يقدّرون الصحة، نحن اكتشفنا السعادة قال آخر الرجال و غمزوا بأعينهم.”

و يبدو  بشكل واضح أن الشرخ بين العالم الأول المتسامح و ردة الفعل الأصولية على هذا التسامح  يتماشى أكثر و أكثر مع خط التعارض بين عيش حياة كاملة ومُرضية تملؤها الثروة المادية و الثقافية و بين تكريس الحياة من أجل قضية سامية من نوع ما. هل حالة العداء هذه ليست ما دعاها نيتشه بالعدمية “السلبية” والعدمية “الفاعلة”؟ نحن في الغرب “الرجل الأخير” الذي تحدث عنه نيتشه، نحن منغمسون في ملذات يومية غبية بينما المتطرفون الإسلاميون مستعدون للمخاطرة بكل شيء و الإنخراط في الصراع إلى حدود التدمير الذاتي. و يبدو أن ويليم بتلر ييتس في قصيدته “القدوم الثاني” قادر على تمثيل معضلتنا الحالية بهذا البيت: 

“الأفضل يفتقرون الإقناع بينما يحتكم الأسوأ على شدة إنفعالية” 

هذا وصف ممتاز للشرخ الحالي بين الليبراليين الواهنين و الأصوليين المهتاجين. و لم يعد ” الأفضل” قادراً على الانخراط الكامل في أي شيء بينما ينخرط “الأسوأ” في التعصب العرقي والديني والجنسي.

على أي حال هل حقاً ينطبق هذا التوصيف على الأصوليين الإرهابيين؟ فما ينقصهم هو صفة من السهل رؤيتها من خلال كل الأصوليات العريقة، من البوذيين التيبتين إلى الآميش في الولايات المتحدة، وهذه الصفة هي غياب الاستياء والحسد، واللامبالاة الشديدة لنمط عيش غير المؤمنين. و إن كان أصوليو يومنا هذا مؤمنين بعثورهم على طريقهم إلى الحقيقة، فلماذا يشعرون بالتهديد من قبل غير المؤمنين، لمَ عليهم أن يحسدوهم؟ عندما يصادف أي بوذي شخصاً غربياً مؤمناً بالمتعة لا يدينه بل يكتفي بالإشارة إلى أن بحث مذهب المتعة عن السعادة هو نوع من الهزيمة الذاتية. من جهة أخرى يشعر الإرهابيون أصحاب الأصولية المزيفة بالانزعاج و هم مسحورون بحياة غير المؤمنين المليئة بالخطايا. و لا يمكن للمرء إلا أن يشعر بأنهم، في محاربتهم للآخر الخاطئ، يحاربون إغراءاتهم الشخصية. 

و هنا يبدو تحليل ييتس غير كاف فيما يتعلق بالمعضلة الحالية: فالشدة الإنفعالية للإرهابيين شاهدة على قصر في الإقناع الحقيقي. كم هو هش إيمان أي مسلم حتى تثير فيه رسوم كاريكاتورية في صحيفة هزلية أسبوعية الشعور بالتهديد؟ فالإرهاب الإسلامي الأصولي ليس متأصلاً في قناعة الإرهابيين بتفوقهم و رغبتهم بحماية هويتهم الثقافية-الدينية من قبضة الحضارة الاستهلاكية العالمية. و المشكلة مع الأصوليين أننا لا نعتبرهم أدنى منا و لكنهم على العكس يرون أنفسهم  أدنى منا. و لهذا تؤكد عقديتنا السياسية المتعالية بأن عدم شعورنا بالفوقية نحوهم يغضبهم و يغذي استياءهم. فالمشكلة ليست الاختلافات الثقافية ( جهودهم للحفاظ على هويتهم) بل المشكلة في الحقيقة المعاكسة القائلة بأن الأصوليين يحبوننا وأنهم، سراً، قبلوا بمعاييرنا ويرون أنفسهم على ضوئها. وما ينقص الأصوليون حقاً هو جرعة من القناعة “العرقية” بتفوقهم.

وتؤكد التقلبات الجديدة للأصولية الإسلامية رؤية والتر بنجامين3 القديمة القائلة “إن كل ظهور للفاشية شاهدٌ على فشل ثورة.” و ظهور الفاشية سببه فشل اليسار ولكنه أيضاً، و بالتوازي، دليل على وجود قدرة ثورية، عدم رضى ما،  لم يتكمن اليسار من تعبئته. ولكن هل ينطبق الأمر عينه على الفاشية الإسلامية؟ هل ظهور الإسلامية المتطرفة بالتحديد غير مرتبط باختفاء اليسار العلماني في البلدان الإسلامية؟ بالعودة إلى ربيع 2009 احتلت طالبان “وادي سوات” في باكستان، وقتئذ قالت صحيفة النيويورك تايمز أن طالبان حضرّت ” لثورة طبقية تستغل فيها الشقاق الكبير بين مجموعة صغيرة من المُلًاك الأغنياء والفلاحين المستأجرين لديهم.” على أي حال فمن خلال”استغلال” أزمة الفلاحين قامت طالبان ” بإطلاق تحذيرات بوجود مخاطر مشابهة في باكستان التي لا تزال اقطاعية بشكل واسع.” فما الذي منع الديمقراطيون في باكستان و الولايات المتحدة على حد سواء من “استغلال” هذه القضية لمساعدة الفلاحين ممن لا يملكون أراضي؟ والنتيجة المؤسفة لهذه الحقيقة تقول أن القوى الإقطاعية في باكستان هي “الحليف الطبيعي” للديمقراطية الليبرالية….

إذاً ماذا عن القيم الجوهرية لليبرالية: الحرية و المساواة  و إلى ما هنالك؟ و يكمن التناقض هنا في أن الليبرالية بحد ذاتها ليست قوية كفاية لإنقاذهم من الضربات الأصولية. الأصولية هي ردة فعل، ردة فعل مزيفة و محيرة من كل بد، إنها ردة فعل على التدفق الحقيقي لليبرالية و لهذا تتوالد و تزداد. وستطيح الليبرالية بذاتها على مهل. و الطريقة الوحيد القادرة على انقاذ قيمها الجوهرية هو اليسار المتجدد، و حتى يبقى هذا الإرث الهام تحتاج الليبرالية إلى المساعدة الأخوية من اليسار المتطرف. و هذه هي الطريقة الوحيدة التي سنهزم بها الأصولية و نسحب البساط من تحتها. 

و بتفكيرنا على ضوء عمليات القتل التي حصلت في باريس علينا أن نتجاوز الرضى الذاتي المتعجرف لأي ليبرالي متساهل و القبول بأن الصراع بين التساهل الليبرالي و الأصولية هو صراع زائف في النهاية- حلقة مفرغة بين قطبين يوالدان بعضهما البعض. و ما قاله ماكس هوركهايمر حول الفاشية و الرأسمالية يعود بالزمن إلى ثلاثينات القرن الماضي، فمن لا يريد نقد الرأسمالية يجب أن يلتزم الصمت حول الفاشية. و هذا ينطبق على الأصولية في هذه الأيام: فمن لا يريد انتقاد الديمقراطية الليبرالية يجب أن يلزم الصمت حيال الأصولية الدينية. 

_____________________________________

نشرت في مجلة “نيو ستاتمنت” في 10/1/2015

الصورة من مجموعة بعنوان “كهربا مقطوعة” للمصور السوري أحمد بلّة

*****

خاص بأوكسجين