الغريب
العدد 252 | 07 آذار 2020
ريهام عزيزالدين محمد


مساءً أخلع عني الغريب، أضعه في السرير المقابل الفارغ

أشعر باسترداد بعضي وأخلد إلى نوم عميق.

صباحاً وقبل أن أتوجه للحمام، أتأكد من ارتدائه بإحكام.

لا أستغرق في الوقوف أمام المرآة طويلاً..

حين يخبرني أحدهم أن النساء يقضين ساعات أمامها، أتعجب

فأنا أرتديه في خمس ثوان كافية للقفز داخله و إحكام قبضته عليّ،

ثم في الثواني الخمس التالية أكون على أهبة الاستعداد لولوج العالم.

***

العابرون بخفة غيمة فوق الغريب،

يشتهونه حد القسوة،

غير أن محاولات ممارسة البطء في إنزال القوات

تبوء بالفشل دوماً.

حين يحضر الغريب يبدو كل شيء طاغياً

الاشتهاء

التوق

الانسلاخ

الحضور

التجلي

التماس حد التلاشي الكامل

أجلس هناك أراقب

الغريب والمارة

أتململ من الانتظار بينما يملأون الفراغ بالتأوهات

أستمع وأمرر كافة عبارات الفيلم الرديء

“أحبك”

“فلتطلبي شيئاً، أي شيء”

الصمت الذي يلي اللهاث المتسارع من أجل التحقق العاجز

أتابع بترقب تهاوي الرغبات الواهمة في السيطرة

الذوبان بالكلية، الاحتراق، ثم أنفض الرماد عن ثوبي الأزرق بينما أهم بالرحيل.

يخبرني الغريب أن ما حدث له مذاق حلو، لربما رغبت في تذوقه يوماً

وحائط زجاجي يفصل بيني و بينه.

تلتمع عيناه كطفل في السابعة ابتعت له للتو لعبته المفضلة

أتركه يلهو

في المساء حين أخلعه عني

أعيد اللعبة إلى البائع

أفعل ذلك خلسة

من دون أن يراني أحد.

يأتي الصباح

أرتدي الغريب

يلتصق بي التصاق الأنف بالوجه.

لا أحد يراني

يعبرون فوق “الغريب”

ثم انسى كل شيء.

***

كنت أقول مازحةً لأختي الصغرى إن من يمتلك سبعاً و عشرين حسنةً سوداء فهي تذكرته إلى الجنة..

أنا أحمل ثلاثاً وثلاثين

الغريب منحني تذكرة دخول الجنة مجاناً

لكن الحسنات السوداء ليست لي

بل لأمي

أشعر أني أتحرك في جسد أمي

الحسنات السوداء نفسها متناثرة أعلى الكتف وممتدة على امتداد الظهر

بياض الجسد

ترهل الإليتين مستقبلاً

بينما بعض الساقبن من أبي – أو هكذا وددت.

حين احتضار أبي كنت أنظر كثيراً إلى ساقيه

في البدء لكي أتابع تطور المرض واحتباس السائل في جسده

ثم أحببتهما

كانتا طويلتين

فهما سلّمه الخاص لكي يقف فوقهما ويرى العالم

ارتدى أبي ساقيه الطويلتين ورأى العالم كله

ولم يرني

كنت واقفة هناك بالأسفل

بلا قدمين

وها أنا الآن مع غريبٍ يلتصق بي و لا أعرفه.

***

في المصعد

كنت أقف أنا و أخي وعامل المصعد وجسد أبي مسجي على عربة بأربع عجلات.

كان الجسد يحملق بي

لونه وردي وقد استعاد عافيته

يكرر على مسامعي ألا أفارقه لحين ذهابه إلى الأرض التي أحبها دوماً

أهم بإخباره بأنه سيتحول إلى عربة ذات أربع عجلات كالتي يرقد عليها

أخشى أن تثير الفكرة الضحك وهو خائف ومرتبك

أعيد رسم الجدية لأستمع إلى ما يقول

أهزُّ رأسي إيجاباً

أمام المكان البارد

أقف أودعه.

بعد أربعين يوماً

انتهوا من قص كل الحكايا عن  الدود الذي سيعتاش طويلاً على الجسد

أود أن أخبرهم أن جسد أبي تحول إلى عربة ذات أربع عجلات في تلك الليلة في مصعد المشفى البارد.

تقاطعني أمي دائماً وهي تخبرني بوجوب أن نبدو متزنين أو إغماض أعيننا لكي ننتهي من كل هذا.

أجلس مغمضة العينين في منتصف نهر متدفق من النساء يرتدين السواد

يتابعن رواية كل ما يمكن مضغه من الحكايا.

أستمع وأهزُّ رأسي

أوشك على القفز من على حافة قبره المدببة

أتعثر في نقطة حرف النون المتطايرة التي نسخها بخط يده  “كل من عليها فان”

يتلقفني الغريب الذي لا أعرفه

يعيدني إلي مضجعي

يهدهدني

أنام لستين يوماً أو أكثر

لا أحد يراني

فقط

الغريب

يرقد هناك ينتظر

***

في السرادق حين قطعوا الكهرباء عن صوت المقرئ الخشن

سألتني أختي الصغرى

هل يمكن أن نصاب بنفس مرض أبي؟

زار المرض أبي مرتين

في المرة الأولى أخبرونا أنه تخطاه تماماً

وأقول دوماً إن المرض صنع بئراً سقط فيه أبي ولم يعد.

وفي الثانية كنت أتعلق بالأمل كل ليلة لكي يعود أبي الغائب منذ أكثر من سبعة عشر عاماً.

كنت أقاتل شيئاً أكبر من أن تحتمله قدماي الضعيفتان اللتان لا تشبهان ساقاي أبي الطويلتان.

في غرفة تتدلى منها الأنابيب وصلوات لم يستمع إليها أحد

مكثت كثيراً بصحبة الغريب الذي لا أعرفه

وأبي- كعادته- لم يعد.

لم أمتلك إجابة كأخت كبرى لأطمئن خوف أختي المرتعبة من إصابتها بنفس ندبة أبي.

لا أتذكر شيئاً عما درسته من تفاصيل طبية يمكنها أن تملأ الفراغ الذي يتسع بيني وبينها

أكتفي بالقول

لا أعلم

لكن إن حدث، فإنني تعلمت العناية جيداً بجسد أبي في الندبتين،

و بجسد أمي حين انتابها مرض آخر جعلها تصرخ فينا لمدة عامين متتاليين

إذا حدث سأكون هنا لأعتني بك

انخرطت هي في البكاء

بينما كنت أنظر للغريب الذي يلتصق بجسدي

من سيعتني بنا إذن حين يحدث؟

امتلأت بالخوف ثم عاد صوت المقرئ من جديد

ليتلو آيات من الذكر الحكيم

ولم يرني أحد.

***

في الحانة اقتربت السيدة الخمسينية

كانت ترتدي شيئاً مثيراً للسخرية

محاولة أخيرة لإظهار تعرجات لا يحتملها جسدها المترهل

وضعت يدها حول الغريب

في الوسط تماماً

كان الجو صاخباً

الجميع يبتسم

وهناك كؤوس تدور باتجاه معاكس

عيناها لا تتحركان حتى لتظنها قد انتهت للتو من تخدير كافة عضلات الوجه بحقنة بنج من طبيب الاسنان.

تتحسس كل شيء في الغريب

ينتفض

يدور دورات متتالية

العينان تستغيثان

لا أحد

يستكمل الغريب الرقص في دوائر صوفية

يأتي وجه يعرفه

يجري إليه بساقين قصيرتين ليستا كساقي أبي

الآخر يتلقفه

بين فكيه

يعتصره

فقد كان يشتهيه منذ زمن

***

في المساء أخلع عني هذا الغريب

أضعه على السرير المقابل الخاوي

ثم أعاود ارتداءه كل صباح

الغريب الذي لا أعرفه

وكم وددت لو يبقى لأخبره أني

لن أحمل سوطاً من الغضب نحوه بعد اليوم

سأتذكر المرات الكثيرة التي اختبأنا فيها سوياً بمكتب أبي المهترئ

على أمل أن يجب أحدنا الآخر.

*****

خاص بأوكسجين


شاعرة من مصر.