إليها
العدد 255 | 24 نيسان 2020
محمد حسين


 

مساء سبتٍ شتوي، كانت الغيوم، وكان ميكروباص محشوراً فى الزحام أسفل الدائري، وكان شابُ يأكله الملل، لم يكن يتوقع أن يراكِ عبر زجاج السيارة وسط الزحام . الصدر مشدود تحت العباءة المتسخة، البشرة سوّتها حرارة الشمس، الشفاه شهوانية، الأنف من دقته وفي زحمة تفاصيل الوجه لم يأخذ حقه، أما العينان فنشازٌ أخضر اللون، وكفك الصغير يحمل هرماً من أكواز الذرة المشوية . تمنيت أن تكوني الفتاة التى أحتفظ بصورةٍ لها فى حافظتي كعادة المحبين.

لو كان يمكن أن أتخطى الراكبين بجواري، ثم أنزل من الميكروباص، وأعبر الطريق إليكِ . أسألك عن ثمن كوز الذرة . ” خمسة جنيه ” _ كنت ستقولين، وكنت سأخرج لك خمسة جنيهات، وآخذ كوز الذرة، أقضم قضمة واحدة، ثم أعطيه لكِ وأقول:

_كُليه أنتِ ..

سأسألكِ عن الاسم . ” هناء ” _ كنت ستقولين . آه لو تكوني هناءً فعلاً، عندها سأقول:

_اسم على مسمّى

” شكراً ” _ ستقولين، ويتورّد خداكِ. وكنت سأحاول أن أطيل الحديث، لكني ساذجٌ أمام الحلوات مثلكِ، فأسألكِ عن بلدكِ أو سنكِ أو المدرسة. ستضجرين من ذلك الثرثار، وستنظرين بتخوف نحو المرأة اللحيمة التى تجلس أمام الفرن تشوي الذرة . قد تكون أمكِ أو خالتكِ أو زوجة أبيكِ . وستدركين أنها لاحظت تلكؤكِ . سأنتبه إلى ألا أعقّد الأمور أكثر، وسأنسحب فى ضوء الشمس التي ظهرت من وراء الغيوم، دون حتى أن أعرض عليكِ التقاط صورة بالكاميرا فى حقيبتي، ثم أقفز في أى ميكروباص لأني تأخرت كثيراً عن موعدي، وطول الطريق سأعاتب نفسي على كونى لا أستطيع التعامل حتى مع بائعة ذرة مشوية..

كنت سأنساكِ فى زحام العمل والتنقل، لكنكِ سوف تستغلين إرهاق أيام العمل وتتسللين إلى أحلامي. سنفترش مرةً الأرض أمام فرن الذرة وأنا أقبلّكِ قبلة طويلة، أو أحاول إقناعكِ مرة بالصعود إلى شقتي لكنكِ ستصرين على الرفض طول الحلم . وفى كل مرة سأستيقظ ملتذاً بالحلم وبرائحة ماء الحياة خلال أنفي، ثم إني سألوم نفسى على غرابة أطوارها، وأقول إنكِ مجرد بائعة ذرة مشوية. وكيف ترفضين الطلوع إلى شقتي ولو حتى فى الحلم ؟! وأقول إن أياً من زميلاتي يمكن أن ترحب بدعوة كتلك، ثم سأعد نفسي بأن أكون ناضجاً لا يطارد بائعة ذرة مشوية تصغرني عشر سنواتٍ على الأقل، لكني لن أتوقف عن شم رائحة الذرة المشوية فى ملابسي، وفى العمل، وفى الزحام أسفل الدائري . سألوح لكِ كل يوم من خلف زجاج الميكروباص، لكنك ستهملينني، فأمسك دموعي وألعن ميتين أهلك وأتوعدكِ كطفل صغير بعدم الالتفات إليك مرة أخرى، لكنها رائحة الذرة المشوية، والحياة تتدفق أمواجها خضراء كعينيكِ، وأنت تضعينني وسط كومة الذرة للمرأة اللحيمة تشويني فى الفرن على نار هادئة، وأنا سأدخن كل يوم ثلاث علب سجائر رديئة، وأتوقف عن الذهاب إلى العمل . أنظر إليكِ على الجانب الآخر من الطريق بجوار كشك السجائر . سيتصل بي الجميع ويسألني عن سبب تغيبي، سأقول إنني مصاب بوعكة، وذاهب إلى البلد. وأتخيلني ذاهباً إلى بيتكِ الذى وصفه صاحب الكشك المقابل لفرشتكم، وأجلس فى صالون ضيق، وأعدّ عروق الخشب فى السقف منتظراً أباكِ أو خالك أو زوج أمكِ ثم أحدثه عني وعنكِ، وأخبره برغبتي، وأتخيل أنه يوافق بسهولة، فيحييني بسيجارة حشيش، ونجلس ليلتنا ندخن . ثم تنقضي أيامٌ أو شهورٌ أو سنون فنتزوج ونقيم أسبوعاً أو العمر كله فى غرفتكِ أو فى شقتي، ونخرج كل يوم إلى العمل زوجين سعيدين، تجلسين أنتِ أمام الفرن وأحمل أنا هرم الذرة المشوية على كفي بين السيارات .

آه لو كنت نزلت من الميكروباص، ولو كانت الأمور سارت كما كنت سأتخيلها وأنا واقف على الجانب الآخر بجوار كشك السجائر، وصاحب الكشك يسأل: تحبها؟! وأنا أقول إني أحبكِ جداً كما يحب هو سجائره وشاربه وكما أحب الكاميرا، وكما تحبين لون عينيكِ . وكنت سأقول له إنني أخطط أن تعلمينني شيّ الذرة وأعلمكِ القراءة والكتابة وأحتفظ لكِ برسالتي هذه تقرأينها بعد أن نمارس الحبّ أول مرة، ثم تنهضين، تغلفين كوز الذرة برسالتي، وعلى نار هادئة تشويه ثم نأكله سوياً ملتذين بطعم الكلمات .

*****

خاص بأوكسجين