مهملات صلاح الزين، من أهملها؟
العدد 290 | 1 تشرين الثاني 2024
د. حسن موسى


البداهة تقول: أهملها الجميع. ولهذا نعرّفها بهذه الصفة المستحيلة: صفة المهملات. لو كانت مهملات فعلاً لما احتجنا لتعريفها لأن التعريف يصطفيها من عتمة الإهمال لو قلنا إنها منسيات فنحن نستدعيها بالاسم من ظلام النسيان. اسمها بالكامل هو: “مهملات صلاح الزين” أو “كتاب المهملات” (محترف أوكسجين للنشر 2024)، والتعريف بالإضافة لصلاح الزين يخارجنا من المأزق المفهومي بإحالتها لأرض الشعر التي يسكنها صلاح الزين وتسكنه “منذ نعومة أظافره” كما تقول العبارة. من منكم فحصَ أظافر صلاح الزين؟ في عربية السودان يعرّفون الحرج الكبير بحالة “الدخول في الأظافر”. وما الأظافر؟ هذا الطلَل التشريحي الموروث من مهملاتِ العيش في جنة عدن؟ قال الشبلي إن آدم لما أكل من الشجرة المنهى عنها ابتلاه الله بعشرة أشياء أولها المعاتبة وثانيها الفضيحة وثالثها وهن الجلد وظلامه، إذ بعد أن كان جلده كله كالظفر جرّده من الظفر وأبقى منه قدراً يسيراً على أنامله ليتذكر بذلك أول حاله (“قصص الأنبياء” للثعلبي).

آمنة أمي لم تكن تقوى على رمي ما تعارفَ الناسُ على تسميته بـ “سقط المتاع”، كناية عن المتاع الذي فقد صفة المنفعة، مثل قنائن العقاقير الطبية الفارغة أو قنائن العطور وجوالين الزيت وصناديق الأحذية وأكياس البلاستيك وعلب حلوى “ماكنتوش” الحديدية. كانت هذه الأشياء تزحم سقف الراكوبة أو سطح الدولاب و “البترينة” أو فوق حافة سقف الحمّام… “كان يوم احتجنا ليها بنلقاها”… كانت تلك حجّتها. أورثتني أمي حُجّة جامِعي التحف التي تنهض على فرضية سحرية فحواها أن كل متاع ينطوي على قيمة سرية كامنة ستتكشّف للناس يوماً ما. وهكذا رضيتُ بازدحام مرسمي بأنواع المتاع “المنتظر” الذي لا يساوِرني شك في أني سأجده حين أحتاجه يوماً ما وعزائي في قولة “بابلو بيكاسو” المتنازع عليها والتي تأيقنَتْ بفعلِ فاعلٍ مجهول: “أنا لا أبحث أنا أجد”.  ممتن لصلاح الزين كونه أثبت حاجته لمهملات الوجود المادي حين استعادها من قبضة النسيان وأودعها يد الشعر، فمنح “كرور” مرسمي حقه في الوجود ونال رضاء أمي، (“قال: ثم من؟ قال أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك”)، فكأنه ضربَ عصفورين بحجر واحد. (خلي بالك من الحجر دا يا صلاح، أنا دفنته ليك عند عتبة بابك الفضيحة داك).

صلاح الزين يتأنّى عند “الباب” و”الشباك” و”البرندة” و”المخزن” و”المخدة” و”البرش” وغيرها من أنواع المتاع الماثل أمامنا دون أن نراه لأننا أحلناه لملكوت الإهمال. وفي وقفة صلاح الزين في حضرة مهملاتنا نوعٌ من وفاء غريب لهذا المتاع اليائس من كل نظر. فمهملات صلاح الزين لا تنتظر أحداً ولا تطمح لشيء، لكن صلاح الزين يتأنّى عندها ويطراها بالخير ويصعّدها لمقام الكائنات الأدبية التي تستقطب اهتمامنا بذريعة الكلم الطيب. فصلاح الزين هنا هو ولد شهرزاد الذي لا يطيق العيش بدون نظم الكلم لكنه، في الوقت نفسه، يضيق ذرعاً بعادات الكلم الطيب، ولو شئت قل هو ولد “ميداس” الذي يحيل كل ما تلمسه يدهُ لذهب الشعر الصقيل. “ميداس” شنو؟ و”شهرزاد ” شنو؟ صلاح الزين هو قارئ “رولان بارت” النجيب لأنه يمسخ “أساطير” (ميثولوجي) “رولان بارت” الحديثة، المكتوبة كأنثروبولوجيا لطبقة وسطى داخل قناعاتها بأن خيرات العالم خُلقت لأجلها، يمسخها لأنثروبولوجيا شعرية تقول لعيال الطبقة الوسطى الحضرية في السودان أن دنيا “الزمن الجميل” التي عرفوها فانية وآخرها كوم “ترابي” . في هذا المشهد أقرأ مهملات صلاح الزين كاحتمال مسموم في “ميثولوجيات” الزمن الترابي الذي انمسخ بفضل الحرب لزمن جميل عبثي. والله -كان ما نخاف الكضب- أظن أن صلاح الزين يعشق حضور الكلم الطيب ويمقت طيبه المزعوم في الوقت نفسه، فيسارع ويعيد تعريف كل شيء فكأنه آلى على نفسه اختراع معجم جديد لمتاع الوجود المخاتل. فـ”الباب فضيحة” و”الشباك ابن الله” و”الرتينة ضوء يتوسط ضوءين” و”البرش نعل قدم السماء” و”المخدّة درب الليل إلى الأرق”… مرة، في صيف 1973، حضرتُ مجادلة شيقة في تعريف المخدّة بين علاء الجزولي وهاشم محمد صالح طوّفا فيها بين علم الجمال وفلسفة الأخلاق وصراع الطبقات واختتمها علاء بـ : “في نهاية التحليل مافيش مخدة بلغت درجة الكمال” فصارت قولة سارت بها الركبان حينا من الدهر (ترى من أين أتى هؤلاء الركبان؟ وإلى أي وجهة يتوجهون؟).

والإهمال في مشهد صلاح واسع وشاسع مترامي الأطراف يملك أن يطال كل شيء، كما الوباء، لا يستثني حتى الاستثناء نفسه. الإهمال عند صلاح الزين يطال وجودنا كقراء وأظن ان صفة الكثرة الغالبة على الكائنات المقيمة في حرز الإهمال تفرض على صلاح الزين العناية بقائمة طويلة من جموع المهملات التي تنتظر التأهيل بوسيلة الشعر. صلاح الزين الشاعر اللساني المُبـَنـْوَن لا يقاوم تعريف “المكان” كـ “امتداد الكلام منظوراً له بما قاله سوسير حول أطروحة اللغة” بلا بلا بلا، مالي أنا والخواجة “فيردناند سوسير”؟، هنا أهرب وأعرّد وأفز لأنجو بجلدي من الهلاك في بحور اللسانيات. أهاجر شوقاً لفرح الشاعر العامر بحجارة الوجود الكريمة التي تزيّن زريبة الخنازير الإسفيرية، قال: “لا تعطوا القدس للكلاب ولا تنثروا درركم أمام الخنازير” (متى6:7).

وما “القدس” إن لم يكن طللاً إضافياً من مهملات العيش الطافية في لجة سقر؟ (اقرأ: “شعر”) التي “لا تبقي ولا تذر. لوّاحة للبشر. عليها تسعة عشر”. من الشعراء الزبانية الأشداء المجودين لصناعتهم. فيأخذون السقراء (ترجم: “الشعراء”) إلى دائرة جحيم “دانتي” التاسعة، دائرة الشعراء الدبلوماسيين الذين “باعوا الشباب وفرطوا في الحب واعتذروا عن الأيام”… في هذه الدائرة يقبع كل من قام بفعل الخيانة ويحرسها العمالقة الزبانية التسعة عشر المذكورين بالعهد القديم والقرآن وكتب الأساطير القديمة والحديثة. وجع…

وما الوجع؟ مندري؟ وستين مندري؟

*****

خاص بأوكسجين