لماذا أنت راحل يا سيدي
العدد 288 | 6-6-2024
توماس هاردي | ترجمة: أسامة منزلجي


كان أستاذ المدرسة راحلاً عن القرية، وبدا الأسف على الجميع. أعاره صاحب مطحنة كريسكومب العربة البيضاء المُبطّنة بالكنفا وحصاناً لينقل أمتعته إلى المدينة التي يقصد، وتقع على بُعد مسافة عشرين ميلاً، وكانت وسيلة نقل ذات حجم كافٍ لحمل أغراض المُدرّس المُغادر. ذلك أنَّ المدراء كانوا قد فرشوا حديثاً مبنى المدرسة، والغرض الثقيل الوحيد الذي كان يملكه المُدرّس، بالإضافة إلى صندوق الكتب الممتلئ، هو جهاز بيانو صغير كان قد اشتراه من مزاد خلال العام الذي فكَّر فيه في تعلُّم العزف على آلة موسيقية. لكنَّ حماسته وَهَنَتْ ولم يكتسب مهارة في العزف، وتحوّل الغرض الذي اشتراه إلى مصدر إزعاجٍ دائم له منذ ذلك الحين أثناء تغيير مكان سكناه.

كان مدير المدرسة سيغيب طوال النهار، لأنه يكره رؤية حدوث تغييرات. لم يكن ينوي أنْ يعود قبل المساء، بعد أنْ يصل المُدرّس الجديد ويستقرّ، ويعود كل شيء سلساً كما كان.

كان الحدّاد، ووكيل المزرعة، وأستاذ المدرسة نفسه واقفين في وضعٍ مُحرِج في الصالون أمام الآلة الموسيقية. قال المُدرّس إنه حتى وإنْ نجحَ في تحميلها على العربة فلن يعرف ماذا يفعل بها لدى وصوله إلى كرايستمنيستر، المدينة التي يقصدها، بما أنه لن يُقيم فيها إلا مؤقّتاً في المرحلة الأولى.

انضمَّ صبي صغير في الحادية عشرة من عمره، وكان يقدِّمُ مُساعدة مشكورة في حزم الأمتعة، إلى مجموع الرجال، وبينما هم في وضع الحيرة تكلَّمَ، وقد احمرّ خجلاً لدى سماع صوته: “عمتي لديها مخزن كبير للوقود، ربما يمكن وضعها هناك إلى أنْ تجد لها مكاناً، يا سيدي”

قال الحدّاد “فكرة جيدة جداً”

وتقرَّرَ أنْ يُعيَّن مُنتدب يتفاوض مع عمّة الصبي – وهي مُقيمة عجوز – وسؤالها إنْ كانت تقبل بإيواء البيانو إلى أنْ يُرسل السيد فيلوستون في طلبها. وبدأ الحدّاد ووكيل المزرعة يناقشان الناحية العملية للمأوى المُقترَح، ووقفَ الصبي والأستاذ جانباً.

سأل الأخير برقة “أتشعر بالأسف لرحيلي، يا جود؟”

طفرت الدموع من عينيّ الصبي، لأنه لم يكن من بين الطلاب المنتظمين الذين اقتربوا بطريقة غير عاطفية من حياة أستاذ المدرسة، بل كان أحد الذين يترددون على المدرسة الليلية فقط خلال فترة وجود الأستاذ في منصبه. أما الطلاب المنتظمين، إذا أردنا الحقيقة، فكانوا يقفون حينئذٍ على مسافة بعيدة، كما وقف تلاميذ المسيح في التاريخ، نافرين من إبداء أي حماسة للتبرُّع بتقديم المساعدة.

فتحَ الصبي الكتاب الذي يحمله بيده بطريقة خرقاء، وكان السيد فيلوتسون قد أعطاه إياه كهدية وداع، واعترفَ بأنه يشعر بالأسف.

قال السيد فيلوتسون “وأنا أيضاً”

سأله الصبي “لماذا أنت راحل، يا سيدي؟”

“آه – إنها قصة طويلة. لن تفهم أسبابي، يا جود. سوف تفهم، ربما، عندما تكبر”

“أعتقد أني يجب أنْ أفهم الآن، يا سيدي”

“في الواقع – أنا لا أتكلَّم عن هذا في كل مكان. أتعلم ما هي الجامعة، وما هي الشهادة الجامعية؟ إنها جواز المرور بالنسبة إلى الرجل الذي يُريد أنْ يًنجِز أيَّ شيءٍ في مجال التعليم. ومشروعي، أو حلمي، هو أنْ أتخرَّج من الجامعة، ومن ثم أوسَمَ كاهناً. وبإقامتي في كرايستمنستر، أو بالقرب منها، سأنضم إلى المركز الرئيسي، إنْ صحَّ التعبير، وإذا كان مشروعي قابلاً للتطبيق، أعتقد أنَّ كوني في المركز سوف يُتيحُ لي فرصةً أفضل لمواصلته من أي مكانٍ آخر”

عاد الحدّاد ورفيقه. لقد وجدا أنَّ مخزن العانس فاولي جاف، وعمليّ جداً؛ وأبدت رغبتها في أنْ تفسحَ مكاناً للآلة الموسيقية هناك. وعلى ذلك تُرِكَتْ في المدرسة حتى المساء، حين ستتوفر المزيد من الأيدي للمساعدة في نقلها؛ وألقى أستاذ المدرسة نظرة أخيرة حوله.

ساعد الصبي في تحميل بعض الأغراض الأخرى، وعند الساعة التاسعة ارتقى السيد فيلوتسون العربة وجلس بجوار صندوق الكتب والأمتعة الأخرى، وودَّع أصدقاءه.

قال، مُبتسماً، عندما بدأتْ العربة بالتحرُّك، “لن أنساكَ، يا جود. كُنْ ولداً طيباً، تذكَّر؛ وكن رفيقاً بالحيوانات وبالطيور، واقرأ قدر ما تستطيع. وإذا ما حدث وجئتَ إلى كرايستمنيستر ابحث عني إكراماً للصُحبة القديمة”

صرّتْ العربة وهي تقطع المرج الأخضر، وتختفي عند المنعطف بالقرب من منزل القسيس. وعاد الصبي إلى البئر عند حافة المرج، حيث كان قد ترك دِلاءه عندما ذهب ليساعد سيده وأستاذه في التحميل. عندئذٍ ارتعشت شفته، وبعد أنْ أزال غطاء البئر ليبدأ بإنزال الدلو توقف برهة وأسند جبينه وذراعيه على إطاره، ووجهه يحمل نظرة ثابتة لطفلٍ مستغرق في التفكير شعر بوخز الحياة قبل أوانه بقليل. البئر التي كان ينظر إلى داخلها كانت قديمة بعمر القرية ذاتها، ومن موقعه الحالي ظهر كرسمٍ منظوريّ طويل ومستدير ينتهي بقرصٍ لامع من المياه المرتعشة على مسافة مئة قدم إلى الأسفل. كان مُبطّناً بطحالب خضراء بالقرب من القمة، وأقرب أكثر نما سرخس لسان الأيل.

قال لنفسه، بنبرة صوت ميلودرامية لصبيّ متقلِّب، لقد سبقَ للأستاذ أنْ سحب الماء من تلك البئر مرات عديدة في صباحٍ شبيهٍ بهذا، وإنه لن يفعل ذلك بعد الآن. “لقد رأيته ينظر إلى أسفلها، بعد أنْ يناله التعب من سحب الماء، تماماً كما يحصل معي الآن، وعندما كان يأخذ قسطاً قليلاً من الراحة قبل أنْ يحمل الدلاء ويعود إلى المنزل! لكنه كان أبرع من أنْ يمكث هنا أكثر من ذلك – في مكانٍ هاجعٍ كهذا!”

تدحرجت دمعة من عينه وسقطت إلى أعماق البئر. كان الصباح ضبابياً قليلاً، وبدت أنفاسه أشبه بضبابٍ كثيف في الهواء الساكن الثقيل. قطعت حبل أفكاره صرخة مُفاجئة:

“أحضِر ذلك الماء، هيا، أيها الوغد الصغير الكسول!”

صدرتْ عن العجوز التي برزت من باب بيتها المُطلّ على بوابة حديقة كوخ أخضر السقف قريب. وسرعان ما قام الصبي بإعطائها حركة موافقة سريعة، وسحب الماء بما كان جهداً عظيماً بالنسبة إلى شخص في مثل بُنيته، وأخرج الدلو الكبير وأفرغه في دلويه الصغيرين، وتوقف برهة لاسترداد أنفاسه، ثم انطلق بهما عبر بقعة من المرج النديّ الذي تقع فيه البئر – تقريباً في منصف القرية الصغيرة التي اسمها ميريغرين.

كانت تقليدية عتيقة بقدر ما كانت صغيرة، وتستقر في حضن نجد متموِّج مُجاور لوِهاد نورث ويسكس. وعلى الرغم من عِتق البئر إلا أنها كانت ربما الأثر الوحيد المتبقّي من التاريخ المحلي الذي لم يطرأ عليه أي تغيير. فالعديد من منازل السكن المسقوفة أو المُقبَّبة قد هُدِمت في السنوات الأخيرة، والعديد من الأشجار قُطِعت على المروج. وفوق ذلك كله، فإنَّ الكنيسة العريقة، المُحدّبة، ذات البرج الخشبي والسنام الطريف، هُدِمَتْ، سُحِقَت إما لتغدوا أكواماً من حصى لرصف الطرقات في الزقاق، أو استُخدِمتْ لإقامة جدران لزريبة الخنازير، ومقاعد الحديقة، وحجارة لإقامة الأسيجة، وصخوراً وُضِعَت في مساكب للأزهار في مكان مجاور. وأُقيمَ مكانها بناء جديد شامخ على الطراز الغوطي الحديث، غريب على العيون الإنكليزية، على قطعة جديدة من الأرض بيد شخص طمسَ سجلات تاريخية هرعَ قادماً من لندن وعاد في يومٍ واحد. والموقع الذي صمد عليه طويلاً معبد عتيق للمقدسات المسيحية لم يُسجَّل حتى على المرج وعلى الأرض العشبية التي شكَّلتْ منذ سحيق الزمن فناء الكنيسة، والقبور المُزالة احتُفِل بذكراها بصلبانٍ من الحديد الصبّ بسعر ثمانية بنسات مكفولة لخمس سنوات.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

من رواية بعنوان “جود المغمور”

*****

خاص بأوكسجين


توماس هاردي: روائي وشاعر إنجليزي يُعتبر من أبرز الكتاب في العصر الفيكتوري. تتميز أعماله بالواقعية والنقد الاجتماعي، وتلعب الطبيعة دوراً كبيراً في رواياته وشعره. أثرت أعماله بشكل كبير في الأدب الإنجليزي.