مع مقاربة عوالم لارس فون ترير السينمائية، تحضر نساء أو قديسات، قد يكن في قرية كنائسها بلا أجراس كما هي بيث، أو سلمى التي جاءت من تشيكوسلوفاكية إلى أميركا وهي ترى ما تريد أن تراه وعدا ذلك فالعتمة حاضرة، بينما نقع في فيلم آخر على البلاهة والجنون وهناك من يتبنى أن يكون أبله أو مجنوناً في مجابهة حياة لها أن تتحلى بهاتين الصفتين.
ومن ثم وبلا أدنى شك ستحضر “دوغما 95” ما إن يرد اسم فون ترير، والوثيقة الشهيرة التي وقعها ومخرجين آخرين دانماركيين أو من بلدان أخرى، لكن الغواية الكبرى ماثلة باستعادة بيث (اميلي واتسون) خارجة من فيلم “تكسير الأمواج” Breaking The waves (جائزة لجنة التحكيم الخاصة في كان 1996)، تلك العاشقة المجنونة في قرية لا أجراس في كنائسها والتي تخاطب الإله وتتكلم بصوته مجيبة على نفسها، ونحن نتعقب انهيارها، أو تدميرها التدريجي هي المتيمة بيان، لا بل إن الفيلم المقسم إلى فصول يبدأ من زواج بيث بيان (ستيلان سكارغارد) والحب التصاعدي الذي يمسي هوساً مع ذهاب يان ومن ثم إصابته بشلل تام.
في هذا الفيلم يمسي الحب امتزاجاً للقداسة بالمعجزة والجنون، فبيث تقبل أن تمارس الحب مع رجال آخرين لا لشيء إلا لأن يان طلب منها أن تفعل لتحكي له ذلك، هي التي تقرف من هكذا فعل إلا أنها مؤمنة بأن قيامها بذلك سيكون معبراً إلى مواصلة يان الحياة وصولاً إلى تحقيق معجزة نهوضه من السرير، وكل ذلك يصاغ بتصاعدية مدهشة، والتمركز الأكبر سيكون حول شخصية بيث الاستثنائية في كل شيء، والتي ستكون صالحة لتقديم مفاهيم كبرى لكنها معكوسة كما هو مفهوم التضحية والوفاء وكل ما هنالك من عتاد أخلاقي تخوضه بيث لكن وفق رؤية فون ترير، والتي تكون – أي هذه المفاهيم – أشد حضوراً وقوة ودرامية لأنها تأتي من الأعماق، وعبر بيث بوصفها واحدة من قديسات فون ترير اللاتي خلقهن على طريقته الخاصة مثلها مثل سلمى (بجورك) في “راقصة في العتمة” Dancer in the Dark (2000) والذي علينا أن نقول إنه فيلم راقص، وهنا أيضاً يكون هذا التوصيف مغايراً ومختلفاً تماماً طالما أنه من صنيع فون ترير، سلمى الرائعة الطيبة، التي تعمل في معمل لأحواض الستانليس وبالكاد تُرى، سلمى التي تحفظ أحرف فحص العيون حتى لا يُكتشف أمرها، وكل ما في رأسها الموسيقى والرقص، والمبالغ التي توفرها من عملها وحبكات الشعر التي ترتبها في العلب وكل ما تتطلع إليه هو إجراء عملية لعيني ابنها لئلا يعاني مما تعاني، سلمى التي ينتظرها جيف يومياً ليوصلها ولا تقبل، والتي كما تقول بلانش في “عربة اسمها الرغبة” لتينسي وليامز “لطالما اتكلت على لطف الغرباء”، فهي محاطة باللطفاء، لكن سرعان ما تتورط بجريمة عندما يسرق كل ما وفرته أحد هؤلاء اللطفاء، والغناء والرقص حاضر حتى وهي على حبل المشنقة.
دائماً المرأة وأنا لا أتذكر من فيلمه “البلهاء” The Idiots (1998) إلا تلك المرأة التي نقع عليها وحيدة في مطعم وتطلب أقل ما يمكن لأن لديها القليل من المال، فإذا بأحد البلهاء يمسك بيدها ولا يفلتها حتى تذهب معه، ولندخل من خلالها إلى عالم هؤلاء البلهاء طوعاً، إلى أن ينتهي الفيلم بهذه المرأة التي تكون قد هربت من بيتها بعد وفاة ابنها الصغير.
أوافق مع ما يقوله فون ترير عن أفلامه بأنه ما من فيلم يشبه الآخر، لكن لها في الوقت نفسه أن تكون من صنيعه هو، ويمكن تتبع بصمته على الدوام، معتبراً أن ما يجمعها هو العاطفة، أو أن “صناعة الأفلام كانت على الدوام قائمة على العواطف” بكلماته هو. أما بالنسبة لـ “دوغما 95” ومسعى فون ترير مع مواطنه توماس فانتربيرغ صاحب “الاحتفال” 1998 إلى العودة لمنابع السينما الأساسية فمن الممكن تتبع ذلك في الكاميرا المحمولة التي يستخدمها فون ترير في أفلامه، وقيامه بذلك حتى في اللقطات الثابتة، والمواقع الفعلية التي يصور بها وغيرها من قواعد يقول فون ترير بأن أي مخرج يعمل وفق قواعد خاصة به، والفرق الذي أحدثه أنه سجّل ذلك، ولكم في “البلهاء” مثالاً ساطعاً على ما كانت عليه وثيقة “دوغما 95” التي صدّرها فون ترير عام 1995.