كما إله، يعبده البعض ويلعنه البعض الآخر، عاش دونالد بارثيليمي الذي أسلم الروح قبل أوانه عن عمر 58 عاماً، لكنه يبقى عثرة من رخام، وهيكل ضخم موضوع بثبات وإمعان في دربنا، هيكل لا يمكن تجاوزه، أو المرور عليه مرور الكرام، لذا وفي ذكرى الرحيل الوديع لصاحب الأدب الجدلي والحضور الرخامي، سنقيم حفل عيد ميلاد له…. الدعوة إليه مفتوحة لكن الأماكن محدودة!
في ما يلي مقتطفات من حوار مطوّل ضمن سلسلة لقاءات “فن الرواية” في مجلة “باريس ريفيو”. أجرى اللقاء جي دي أوهارا وذلك في عام 1990، ننشره هنا بالتوزاي مع صدور “اشتريت مدينة صغيرة وقصص أخرى” عن “محترف أوكسجين للنشر”، وهي ترجمة لمختارات لأبرز وأشهر قصصه، تصدر للمرة الأولى بالعربية.
المُحاور:
ما الذي يطلق شرارة القصص في داخلك؟
بارثيلمي:
الكثير من الأشياء صراحةً، كتبت مثلاً مقالاً عن الإمبراطور الصيني، أو كما يسمونه “الإمبراطور الأول” شين شي هوانج تي”. وقد أتت هذه القصة بإلهام من بحث أجرته زوجتي في إطار سعيها لكتابة مقال عن السياسات الطبية في الحي الصيني، وقد جمعت في سبيل ذلك كل ما يخطر بالبال من مواد ومراجع عن الثقافة والتاريخ الصينيين، وبدأت أنتقي من بينها كما يخطف الغُراب كل ما يتلألأ ويبرق. كان هذا هو الإمبراطور الذي أحاط قبره بجيش كامل من الجنود المصنوعين من الطين الذي لم يكتشفه الصينيون إلا منذ بضع سنوات خلت. القبر، على حد علمي، ما زال بحاجه إلى تنقيب كامل لاكتشاف كل ما فيه، لكن حجم الاكتشاف يعطيك مؤشرات واضحة عن هول مخيلة ذلك الرجل، ومدى طموحه. في مسيرة دراستي له، وأضع كلمة “دراسة” بين علامتي اقتباس هنا، فمعظم ما قرأته كان تاريخاً مشكوكاً فيه، نما عندي إحساس بأن الإمبراطور كان يركض كالمسعور من قصر إلى قصر، وقد بلغ عدد قصوره 200 ونيف، يسابق الزمن محاولاً باستماتة إنجاز مشاريعه ودسائسه ومكائده. الوقت يداهمه بصورة مرعبة، سواء الوقت كزمن ينقضي، أم الإحساس بأن كل جهوده تأتي كخطط تعاند الفناء. القبر بحد ذاته هو خطة، تماماً كما هو فرض تصاميم محددة على حياة شعبه، كالمواصفات التي حددها بخصوص مدى اتساع القبعات، وعرض العربات، وما إلى هنالك. يمكن اعتبار “الإمبراطور” نسخة أخرى من قصة كتبتها عن كورتيس ومونتيزوما[1]، ويمكن اعتبار القصتين هوامش لرواية “الأب الميت” الذي يمكن اعتباره امبراطوراً آخر.
المُحاور:
في رواية “الأب الميت” تقارب عالم كافكا وتقترح أن الله قد أظهر نفسه كأب سيء، لكن في حين أنك تبدو غير مؤمن بالرب، كان كافكا معروفاً بإيمانه.
بارثيلمي:
في الواقع أعتبر الروح القدس صديقي العزيز، كما يقولون. لا أظن أنه كان لدي في أي وقت الشيء الكثير لأقوله عن الرب باستثناء أنه محل شكوى، أو فكرة متفق عليه، أو شخص يمكن التذمر منه بمرارة. تقترح “الأب الميت” أن العديد من المعارف والثقافات الأخرى قد دخلت في صلب عملية التطور، وأهم هذه الخبرات هي تلك التي تأتي في شكل علاقة تربط التشريع بالذات. الشخصيات تشتكي من هذا الواقع بطريقة مثيرة للاهتمام، أو آمل ذلك بالأحرى. لعن ما هو كائن يشكل أرضية رائعة للكاتب.
المحاور:
ما هي أعظم نقاط ضعفك ككاتب؟
بارثيلمي:
أنني لا أعبّر عن قدر كافٍ من العاطفة، وتلك واحدة من الأشياء التي يلجأ الناس إلى الأدب من أجلها، وهم ليسوا مخطئين في ذلك. أعني أنه من الصعب الإتيان بعاطفة أسمى. كما أنني لا أستطيع أن أقاوم التندر وإطلاق النكات، بالرغم من أنني أستطيع التحكم بنفسي الآن في هذا السياق أكثر بكثير مما كنت عليه من قبل. لا بد لنقطتي الضعف هاتين أن تتفاعلا مع بعضهما بالتأكيد، فالمزاح يعيق العاطفة. أقدّر بشكل خاص تلك اللمسة المسكوت عنها من العاطفة والتي تختصر صفحات كاملة، لكنني غير قادر على الاتيان بمثلها في أحيان كثيرة. على سبيل المثال، في نهاية رواية “في المكان المناسب” Falling in Place لآن بيتي، يتمني جوناثان أمنية وتسأل سينثيا سبانجل ما الذي تمناه ليجيب “المعتاد، كما أظن”. هذا بديع بالنسبة لي.
المُحاور:
تقول في قصة “صعود الرأسمالية”: كما تنجذب الزهرة إلى بائع الزهور، تنجذب النساء إلى الرجال الذين يعاملونهن بسوء” وبدا تحقيق الذات غير وارد من منظور شخص آخر، إلا أن المرء لا يعرف ذلك من البداية”.
بارثيلمي:
ليس مقطعاً رقيقاً هذا الذي اخترته. وأنا أكتب ذلك تراءت لي صورة فيها مكبر صوت مثبّت على عمود في معسكر لإعادة التأهيل. وشعارات متواصلة، وطنين معدني، ورسائل شخصية ممزوجة برسائل سياسية، وبروباغندا دعائية، وهي يسارية في هذه الحالة. “في ظل الرأسمالية الحديثة ترى التخلف الثقافي للعامل في كل مكان، تلك هي وسيلة السيطرة عليه بإحكام.” إذا كان لي أن أقتبس هنا.
المُحاور:
عندما كتبتَ “حمّام الذهب”، هل قصدت أن تستهزئ بالقيم الجديدة التي يحمل لوائها كل هؤلاء المناصرين للفلسفة؟
بارثيلمي:
لا، لم استهزئ بمناصري الفلسفة، بل مناصري السفسطة والفذلكة. في الوقت الذي كُتبت فيه تلك القصة، كان ثمة سوية منحطة ومشوهة من لغة سارتر يرطن بها كل من هب ودب. كان هذا منذ زمن بعيد، حوالي العقدين تقريباً. كان الحلاق الخاص ببيترسون في القصة قد ألّف أربعة كتب تحت عنوان “القرار بأن أكون” وكان جيل التلفاز يبعبع ويرغي ويزبد بسعار حول قضية الأصالة. كان هناك الكثير من هذا في كل مكان، مواضيع تافهة وقضايا فارغة تسري مع الماء والهواء… لم تكن القصة تدور حول القيم، بل اللغة. يمكن للمرء أن يكتب القصة نفسها اليوم بمجرد استبدال المفردات الحالية وتغيير جزء بسيط من بناء القصة. يمكنك تسميتها “المستذئب”.
المُحاور:
عند سؤاله عن الجانب الذي تم إهماله في عمله الأدبي وسبب له الحزن، أجاب ألبير كامو “حس الفكاهة”. ماذا سيكون جوابك عن هذا السؤال؟
بارثيلمي:
لا أظن أنه قد تم إهمال أي جانب من عملي. لمدة طويلة من الزمن كان هناك ذاك الربط المزعج بيني وبين الفنانين الشعبيين، ولا يزال هذا يطل برأسه بين حين وآخر… وهو ما كان يزعجني للغاية. لكن يبدو أن هذا تلاشى تماماً الآن. ثمة درجة معين من الارتباك الذي يصيب النقاد عند ما يتعاملون مع أدب “ما بعد الحداثة”، تراهم مرتبكين لا يعرفون كيف يروضون هذا الوحش الجامح. ليست تلك المرة الأولى التي يحدث بها هذا في تاريخ النقد، ثمة سوابق كثيرة. أظن أن هذا سيستمر لفترة من الزمن.
المُحاور:
هل يوجد أي موضوع تحب أن تتناوله في كتاباتك، لكنك لم تفعل بعد؟
بارثيلمي:
تحدثنا من قبل عن الخوف… إنه ميدان عصيّ. هناك الكثير مما يمكن أن يُقال فيه. إذا بحثت في الأدب النفسي، لن تجد الكثير من الأعمال القيّمة، معظمها عن القلق، والقليل منها فقط عن الخوف. هناك الكثير من الحكم والأقوال المأثورة. يقول نيتشة إن الحضارة قد جعلت الأمور القيمة متاحة للجبناء حتى، وهذا منطقي بما يكفي لكنه ينضح بالازدراء أيضاً. هو موضوع صعب، لكنه موضوع الساعة. في الماضي كانت ليلى تحمل سلتها وتمضى إلى بيت جدتها بكل ثقة وشجاعة غير عابئة بالذئب أو غيره، أما اليوم فعلينا أن نرسلها في سيارة مضادة للرصاص. نحن نعيش في زمن غريب. منذ وقت ليس بالطويل، كنت في سيارة أجرة والسائق كان قريباً جداً من المنعطف عند عبوره حيث يقف رجل حسن الهندام ويحمل حقيبة على كتفه، فما كان من ذاك الرجل إلا أن ضرب مؤخرة السيارة بيده… وهي حركة نيويوركية بامتياز. وهذا ما جعل السائق يقفز من سيارته متأهباً ليتعارك معه، وإذا بصاحب الحقيبة يفتح سترته بيد واحدة كمتعرٍ محترف ليرى السائق المسكين أنه متمنطق بجراب مسدس عيار 38. حدث هذا في “بارك أفينيو”.
————————————-
[1] كورتيس هو جندي مغامر إسباني فتح إمبراطورية الآزتك في بلاد المكسيك، وفتح أمام إسبانيا مصادر الثروات المعدنية الهائلة، ولكنهُ دمر حضارتهم عاصمتهم وأسر ملكهم مونتيزوما، وحولهم جميعاً إلى عبيد.
*****
خاص بأوكسجين