تشايانوف، علَم على قبر مجهول
العدد 282 | 30 كانون الثاني 2024
أحمد م الرحبي


في ما يلي مقدمة الروائي أحمد م الرحبي لترجمته لرواية الكسندر تشايونوف “رحلة أخي أليكسي في يوتوبيا الفلاحين” عن الروسية، و الصادرة أخيراً عن محترف أوكسجين للنشر:

ألكسندر فاسيليفيتش تشايانوف (1888-1937)، اقتصادي روسي سوفيتي. مؤلفاتُه التي تربو على أربعين كتاباً توزّعت بين علم الاجتماع والأنثروبولوجيا الاجتماعية والخيال العلميّ والطوباوي. اهتمّ بالفلاحة من بابها العلميّ، فألّفَ فيها دراساتٍ شملتْ تخصّصاتها المختلفة، كما يُعدّ مؤسِّساً في هذا المجال ومستنبِطاً لنظرياتٍ ومصطلحات من قَبيلِ نظريةِ “العمل الجماعي” و”التعاونيات الزراعية”، ومصطلحِ “الاقتصاد الأخلاقيّ” و”الأمنِ الغذائيّ” إلى جانبِ وضعِه دراساتٍ هامّة حولَ الزراعة في بلجيكا وإيطاليا وروسيا وكازاخستان. وغيرَ اشتغالِه الأساسيِّ في العلومِ الزراعيَّة. كانت لتشايانوف جولاتٌ في الفنّ والأدب والدراما.

جرّته أفكارُه إلى صداماتٍ عنيفة ومتكرِّرة مع السلطةِ السوفيتية حيث اتُّهِم عام 1926 بالبرجوازية وبشروحاته المناهضة لأفكارِ الماركسية حول اقتصاد الفلاحين. ومع إحلالِ التعاونيّات الزراعية السوفيتية في نهاية العشرينيات من القرن العشرين، نمتْ موجةٌ من الانتقادات الإيديولوجيّة والسياسيّة ضد تشايانوف. فأصبح سجّله لدى السلطة ممهوراً باتّهامين خطيرين: تهمة تحت مُسمّى “الشعبويّة الجديدة”، وتهمةُ الدفاع عن مصالح الفلاحين الأثرياء، والترويجِ للنظريات الزراعية البرجوازية. لاحقاً، في مؤتمر الماركسيين الزراعيين الذي عُقدَ بين 20 و29 سبتمبر من عام 1929 تلقَّى تشايانوف عاصفةً من النقدِ والاتّهامات واستُنبِطت ضدَّه نظريةُ “تشايانوفشينا” التي تصنّفُ أعمالَه في خانة العمالة للإمبريالية؛ بل إنَّ ستالين تحدَّث في المؤتمر، وهاجمَ ما أسماه “النظريات المناهضة للعلم التي يقودُها اقتصاديون سوفييت من أمثال تشايانوف…” فأيُّ تهمة أشدُّ وطأة من تهمةٍ يسوقها ستالين؟

في يوليو 1930 أُلقيَ القبضُ على تشايانوف وعدد من الاقتصاديين البارزين فيما سُمّي “مجموعة لكوندراتيف – شايانوف” التي كانت جزءاً من حزبٍ يُنكِرُ بعضُ المؤرخين وجودَه ويعتبرونه ملفّقاً من قِبل السلطة لمحاربةِ خصومِها يُسمّى “حزب العمّال الفلاحين”، اتُّهمَ الموقوفون بموجبه بـتنظيم انتفاضات للفلاحين.

ثم يأتي عام 1932 ليشهدَ إدانةَ تشايانوف في تلكَ القضيّة، ويحكمَ عليه بالسجن خمسَ سنوات، قضى أربعاً منها في السجون، واستبدل العام الأخير بالنفي في “ألما آتا” (كازاخستان)، حيث عمل في معهد أبحاث الاقتصادِ الزراعي. وفي عام 1935 مُدِّد منفاه ثلاثَ سنوات أخرى، ثم اعتُقل في مارس 1937 مرة أخرى أخيرة، حيث أُدرج اسمُه على قائمةِ الإعدام، وأعدِم في اليوم نفسه رمياً بالرصاص.

كتبَ تشايانوف بأسماءٍ مستعارةٍ منها “إيفان كريمنيف” (وهي كنية بطل هذه الرواية)، لكنَّ الاسمَ افتُضح، فلجأ إلى اسمٍ آخر “عالم النباتات X” الذي كان سبباً في حمايةِ بعضِ أعمال الكاتب وذلك حين عمَدَ الرقيبُ السوفيتيّ إلى حظر مؤلفاته، فمُنعَ توزيعُها وسُحبَ وأُتلف ما كان منها في المكتبات. وقد أصدر تشايانوف خمسَ قصص رومنسية ما بين أعوام 1918 و1928 بتوقيعه الأخير.

بالنظر إلى المسار الفكري للعالِم الروسي ألكسندر تشايانوف، وعملٍ مركزيّ للكاتب البريطاني جورج أورويل (1903–1950) لا يسع المرء إلا أن يلاحظَ قواسمَ مشتركةً بين ما كتَبَه الرجلان. الكلام هنا عن رواية جوروج أورويل “1984”. الشائع بين النقّاد الروس أن جورج أورويل قد استوحاها من كاتبٍ روسيّ آخر وهو يفغيني زامياتين عبرَ روايته “نحن”، أمّا مع تشايانوف وأورويل فنجدُ أن المُرتَكَز الرئيسي لعمليهما الطوباويين، واحدٌ. يتمثَّل هذا المُرتَكز في البحثِ الدائبِ عند كلا الكاتبين عن بدائلَ للاستبداد الذي يعتري الديمومة البشرية ويتغلغل فيها، وذلك على الرَّغم منَ الاختلافِ الظاهريّ بينهما، حيث العالَمُ في رواية “1984” قاتمٌ، لا مخرجَ فيه من المأزقِ الذي ينصبُه الطغيانُ السلطويّ للبطل، بينما تنحو رواية “رحلةُ أخي أليكسي في يوتوبيا الفلاحين” إلى طمسِ الحدودِ بين القرية والمدينة، المركزِ والريف، مع تكييفِ التطوّرِ التقنيّ الخارق لخدمةِ الإنسان ورفعِ مستواه الثقافي… أي ما يمثلُ رؤيةَ تشايانوف لمستقبلِ الاتّحاد السوفيتي بعد الإطاحةِ بنظامه. زدْ عليه هذه المصادفةَ العجيبةَ المتمثّلةَ في تاريخ 1984 وهو العام الذي يستيقظُ فيه بطلُ الرحلة (المكتوبة في عام 1920) ويتكرَّر مرتين: الأولى ضمن عنوانٍ لأحدِ الفصول، والثانيةُ ضمن سياق الرواية، في حين يختارُه أورويل كعنوان لروايته الشهيرة. يشير الباحثون إلى تفسيراتٍ بسيطة لاختيارِ هذا التاريخ واشتراكِ الكاتبين به. فيما يخصّ تشايانوف، فإن الحيّز الزمنيّ الذي وضعَه لعمله (وربما لاستشرافه مستقبل بلاده!) يعتمد على انقلابٍ سيطيحُ بالسلطةِ البلشفية عام 1934، ومن هذا المنطلق، يقفز ببطله خمسين سنة قادمة، أي إلى عام 1984، ليخبرَنا من هناك عن التطوّر الذي بلغتْه بلادُه. أمّا بالنسبة لجورج أورويل فالمسألةُ -وفقاً لافتراض الباحثين- أكثرُ بساطةً بكثير، فالكاتبُ الذي أنجزَ روايتَه عام 1948 اعتمدَ تاريخاً كعنوانٍ لروايته، وحيّزاً زمنيّاً لأحداثها، انطلاقاً من تحريكِ الرقمين، الأحادي والعشري، في سنة كتابتها، وبه صاغ عنوان روايته “1984”، معزِّزين رأيهم بأنّ أورويل لم يطّلع على أعمال تشايانوف التي تُرجِمت إلى الإنجليزية والفرنسية بعدَ وفاة الكاتب الإنجليزي.

أخيراً، يدلُّنا عنوانُ الفصلِ الأخير من الرحلة، إلى أنَّ تشايانوف كانَ يخطِّط لكتابةِ جزء/ أجزاء أخرى لكتابه، وأنْ يكملَ معمارَ مدينتِه الفاضلة، المعمارَ الذي وجدناه مشغولاً بسردٍ متقن، ووصفٍ مرهَف، مع طرحٍ علميٍّ عميق، يصادفُنا في هذا الفصلِ أو ذاك من فصولِ الرحلة، كلُّ هذا في صفحاتٍ قليلة محبوكةٍ بثقافةٍ عالية، وحسٍّ أدبيٍّ رفيع، وفكرٍ اقتصاديٍّ يصوغ من النظريّةِ العلميّة، أحلاماً وفنّاً. فهل أكملَ تشايانوف رحلته؟ أين الجزء/ الأجزاء التالية إذاً؟ هل اختفت، ضاعت، أُعدِمَت مع صاحبها؟ لا أحدَ يعرف، تماماً كما لا يعرفُ أحدٌ المكانَ الذي دُفِنَ فيه تشايانوف.

*****

خاص بأوكسجين


كاتب ومترجم عماني. صدر له عن محترف أوكسجين للنشر رواية "بوصلة السراب" (2024) وترجمة رواية ألكسندر تشايانوف "رحلة أخي أليكسي في يوتوبيا الفلاحين" (2024). من إصداراته أيضاً: مجموعة قصصية بعنوان "أقفال" (2006)، وله روايتان: "الوافد" (2012)، و"أنا والجدة نينا" (2015). من ترجماته عن اللغة الروسية: "انتقام تشيك الرهيب، قصص من الأدب الروسي المعاصر" (2017)، و"زواج الطاهية" لـ أنطون تشيخوف (2019)، و"ثلاثية مكسيم غوركي: الطفولة، بين الناس، جامعاتي" (2019–2020)، و"فروسيا كوروفينا" لـ ستانيسلاف فوستوكوف، قصص أطفال (2020). و"كيف تعلمت الكتابة" لـ مكسيم غوركي (2022)، والجزء الثاني من رباعية يفغيني روداشيفسكي "مدينة الشمس"، رواية للفتيان (2022).