العربية… لغة تحمل سياطاً
العدد 282 | 30 كانون الثاني 2024
سعيد قاسم


كان اسماعيل رجلاً قصيرَ القامة، رفيع الشارب، سريع الحركة، بطيء النطق، صديق البراري والسهول والتلال، يلبس على الدوام سروالاً وسترةً تضفي على هيئته قصراً مضاعفاً فلُقّب بين أبناء قومه بـ “سمو” القصير، حتّى إنّ زملاءه ممّن يمتهنون العمل ذاته، وأقصد الرعيان، كانوا يستدلّون على قطيعه، بقولهم: “قطيع بدون راعٍ” في إشارة إلى أنّ قامته التي لا تتجاوز في ارتفاعها قامة الضائن التي يرعاها.

اكتسب اسماعيل لقبه هذا حين ساعده قصر قامته على الإفلات من الشرطة التي كانت تتفقد قطعان الأغنام لتتأكد إذا ما كانت مسجّلة لدى مديرية الزراعة والثروة الحيوانية أم إنّها قطعان مهرّبة من العراق، حينها اختبأ اسماعيل بين الأغنام، في الحقيقة رغم امتلاكه للوثائق المطلوبة، اختبأ بين قطيعه لأنّه لم يكن يتحدث العربية، لم يكن يعرف عنها أي كلمة، حتّى كلمات الترحيب “مرحبا، السلام عليكم” كان يعتقد إنّها كلمات كردية، ليس لهذا السبب فقط بل خوفاً من الشرطة، كان البسطاء من الناس يرهبون الشرطة لاسيما ممّن لا يتحدثون العربية، اسماعيل كان قليل التحدث بالكرديّة أيضاً، ربّما لم يتمرّن لسانه كفاية وهو الذي يقضي جلّ وقته مع القطيع.

ثمّة لغةٌ يتحدّث بها الراعي مع القطيع، مفردات صوتية معدودة تستخدم لسوق القطيع أو إيقافه… تلك اللغة كان يتقنها إسماعيل، وحين يصوّت يستجيب القطيع كما لو إنّه ألقى شعراً.

لم يعرف اسماعيل أصدقاء طفولة، ولم يذهب إلى المدرسة، ذهب شقيقه الأكبر فقط، كانت العادة لدى العائلات الكردية في سبعينات وثمانينات القرن الماضي، أن يكمل الأخ الأكبر فقط تعليمه، فيما البقية يقومون بأعمال الزراعة وتربية المواشي، بعض العائلات كانت ترسل أبناءها في صغرهم لدراسة عدد من الصفوف ليتعلموا القراءة والكتابة فقط، لم يكن ثمّة طموح لدى الغالبية لإكمال التعليم ودخول الجامعات إذ إنّ نسبة كبيرة من أهالي القرية كانوا “أجانب الحسكة” أي مجرّدون  من الجنسية، ومحرومون من ممارسة حقوقهم المدنية سواء في التوظيف الحكومي أو الانتساب الى النقابات.

ولكنّ اسماعيل لم يذهب إلى المدرسة سوى ليوم واحد، وصل ذلك اليوم إلى أعتاب المدرسة، وتوقف حين سمع الأستاذ يصرخ بوجه طفل، سمع ذلك اليوم أولى كلمات اللغة العربية، لم يفهم شيئا منها، ولكّنه فهم كلمات الطالب حين قال بالكردية وهو يبكي بأنّه لا يعرف التحدث باللغة العربية.

الحديث باللغة الكردية في المدارس خطأ لا يغتفر، قد يتلقى على أثرها الإهانات من الأستاذ وأحيانا الضرب، وفي أفضل الأحوال يلقى الاستصغار من زملائه من الطلبة المجتهدين الذين يتحدثونها جيّدا.

كانت المدرسة عبارة عن مبنى مصنوع من اللبن، مؤلف من ثلاث غرف، يبيت الأستاذ في إحداها، بينما يقسّم طلاب جميع الصفوف إلى مجموعتين، يقوم مدرّس واحد فقط بتدريسهم جميعاً فيقوم بتعليم مجموعة في الوقت الذي تستريح فيه المجموعة الأخرى، وحين يتعب الأستاذ ينظّم مباراة كرة قدم بين المجموعتين ويراقبهم من بعيد.

حين عاد اسماعيل إلى المنزل سألته والدته عن سبب عودته، ردّ عليها بأن الأستاذ أخبره إنّه لا يزال صغيراً، قالت أخته الكبرى على سبيل السخرية “صغيرا أم قصيراً؟”

ظلّ  لقبه “القصير” ملاصقا له عبر سنوات طفولته، لم يكن يبدو من بعيد خلال تواجده داخل قطيعه، إذ إنّها كانت من الضائن الكردي المعروف محليّاً بـ “الحمداني” والتي تمتاز بطولها وضخامة حجمها، هذه الصفات اكتسبتها عبر مئات السنين في نمط حياة رتيب تقضي ربيعها وصيفها في مراعٍ تمتدّ بين أرياف ولايات “وان، شرنخ، وجزيرة ابن عمر”  في تركيا، وتقضي شتاءها وخريفها في الريف الجنوبي والشرقي لمدينة المالكية/ديرك  بمحافظة الحسكة في سورية، قبل أن تقسّم الحدود التي صنعتها الاتفاقيات الدولية “سايكس بيكو- لوزان”  في عشرينيّات القرن الماضي نمطَ حياة عشائر الكوجر “الكرد الرّحل” وتحاصره في المراعي الشتوية في سورية، وتحوّلت سلالة الضأن تلك مع التغيرات المستمرة في المناخ إلى عبء على الراعي الكردي، ولاحقها التهجين ليتحوّل الاعتماد مع مرور الزمن إلى سلالات تلائم البيئات الصحراوية.

في مجتمع اسماعيل، حين يكسب الرجل لقباً أو يُكنى باسم في طفولته، يرافقه هذا اللقب عبر مراحله العمرية كلها حتى حين يصبح عجوزاً، بل إنّ كنيته تلك لا تدفن معه في قبره، فالأبناء والأحفاد يحملون تلك الكنية، هؤلاء الأكراد مربّو الأغنام ربّما لم يكن لهم تلك المساحة الكافية لقضاء فسحات تعارف اجتماعية فكانوا يميّزون أحدهم بلقب ما قد اكتسبه جراء موقف ما، وما أكثر المواقف الصعبة! وما أبلغها حين يكون اللقب معبّراً عن صاحبه! حتّى إنّ أحدهم حين كان يعجب بلقب صاحبه يقول: “مَن أعطاك هذا اللقب يستطيع أن يصنع الطائرات” في إشارة إلى ذكائه الحاد.

لم يكن من رادعٍ اجتماعي أو ديني يستطيع أن يوقف هذا السيل من الألقاب التي تسخر من أيّ شيء خارج عن المألوف، بل إنّ إمام الجامع المسمّى لديهم بـ”مُلا” كان حتّى نهايات القرن الماضي أيضا شخصاً خارجاً عن السياق الاجتماعي، يواجه مجتمعيّاً بالألقاب أو بتأليف الطُرف والنُّكت عنه، لاسيما حين يتّصل الموضوع بفريضة الزكاة، هذه الفريضة التي كانت ولغاية الآن مصدر عيش الإمام.

التحدّي الأهم الذي  كان يواجهه الإمام هو الحفاظ على هيبته  كرجل دين يستحق أن يحصل على الأعطيات والزكاة، وهذا ما لم يكترث له الوجهاء وزعماء العشائر “الأغاوات” بل كانوا يساعدون من حين لحين في النيل من هيبة الإمام خوفاً من اكتسابه مكانة تنازع مكانته، ومع هذه الحال بات الأئمة خلال عقود طويلة في موقف الدفاع، بل إنهم حين كانوا ينزلون في قرية ما يقضون فيها سنوات عدّة يتواءمون مع ثقافتها، وتقتصر دعوتهم الدينية على التذكير بأداء الفرائض والزكاة بوجه خاص، وعلى استحياء كانوا يذكّرون بتحريم الدين للألقاب لاسيما الآية الحادية عشرة من سورة الحجرات (وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).

هذا الحذر من أئمة الجوامع كان بمثابة خوف من مواجهة المجتمع، ليس فقط لأنه يمتلك ثقافة راسخة، وإنّما أيضا كان خشية مواجهة قد يخسر في نتيجتها مستقبله الديني، أو بصورة أدق يفقد مصدر عيشه.

عاش اسماعيل أكثر من ثمانين سنة، قضاها راعياً، لم يألف مجالس السّمر، كما ألف قطعان أغنامه، أصحابه كانوا معدودين جدّا، فقط من زملاء مهنته، وتقتصر مجالستهم في شرب كأس من الشاي في البراري حين تلتقي قطعانهم.  لم يكن من مهامه الذهاب إلى المدينة الصغيرة القريبة “المالكية” لبيع الجبنة أو السمنة أو الخراف، أو القيام بواجب منزلي كشراء مؤونة المنزل وخلافه، بل إنّه لم يراجع الأطباء كثيراً، حتى إنه لم يعرف طبيب أسنان، كانت أسنانه تتآكل شيئاً فشيئاً حتى تنتهي، هو نفسه قلع بعضها دون مساعدة أحد.

كان الخروج من المنزل امتحان مواجهة بالنسبة إليه، غالبا ما كان هو نفسه يرتاب من ذلك، قبل أن تعتاد عائلته على نمط حياته. أولى مواجهات اسماعيل في حياته كانت في مقتبل عمره، في سبعينيات القرن الماضي، وجد نفسه، هو وثلّة من أصحابه، في مواجهة غير متوقّعة مع دورية لقوات حرس الحدود “الهجانة” عناصرٌ مسلّحون بالعصي كَمنوا لهم حيث تم القبض عليه متلبساً يرعى قطيعه فيما يعرف بمزارع الدولة، وهي ملكٌ قديم لمزارعين من القرى المجاورة قبل أن تضع الدولة يدها عليه تحت اسم الإصلاح الزراعي، والحقيقة إنّها كانت استلاباً لعشرات الهكتارات من الأراضي الخصبة في الخط العاشر على امتداد المناطق الكردية بمحاذاة الحدود التركية ضمن سلسلة مشاريع قامت بها السلطات السورية حينذاك لإجراء تغيير ديمغرافي.

لم يفتقد اسماعيل للخفّة والسرعة للإفلات من كمين “الهجانة” حين نادى رفاقه “شرطة، شرطة” ولكنّ الارتباط النفسي الوثيق بينه وبين قطيعه منعه من تركه لمصيره، ووجد نفسه للمرة الأولى في مواجهة قاسية مع اللغة العربية، لم ينبس ببنت شفّة حين سأله الشرطي: “شو عم تعمل هون.. كلب ابن كلب” ثم انهالت عليه شتائم لم يفهم معظمها، ولكنّ قدَمَيه تعرّفتا تماماً على سياط الشرطي، وقام رفقائه الذين كانوا يراقبونه من مرتفع قريب بعدها نيابة عنه، أما هو فكان مشغولاً بالصراخ.

تلقّت قدَما اسماعيل سبعة عشر سوطاً، وأخرى متفرقة على مناطق من جسده، لم تكن لتكسره بقدر ما تألّم حين قامت الدورية بالاستيلاء على أفضل نعجاته كرسم غرامة.

بقي اسماعيل يومين في المنزل على أثر هذه الحادثة، ولكنّه وجد نفسه بعد ذلك في مواجهة اللغة العربية كلّما التقى برفقائه الذي كانوا يسخرون منه ويلقون عليه شتائم تلقفّوها من عناصر دورية الهجانة وأخرى قاموا بتأليفها حسب هواهم، فكانوا ينادونه يا كلب يا راعي ابن الراعي يا قصير يا ابن…. ”

لم يحدث أن ردّ اسماعيل الشتائم تلك باللغة العربية، كان يردّها لهم باللغة الكردية، يردّها بعد برهة وليس بسرعة، إذ كان بطيء النطق، العربية بالنسبة إليه، لغةٌ ذات مخالب، لغةٌ تحمل سياطاً يمكن أن تنقضّ عليه في أيّ وقت، بل يعتقد إنّ كل مَن يتحدث بها لديه سلطة فعل أيّ شيء.

استطاع اسماعيل فيما تبقى من حياته تحاشي اللغة العربية والمتحدّثين بها فيما عدا بعض الشتائم التي كانت تأتيه من حين لآخر من رفاقه لتذكير قدمه بالسياط السبعة عشر، ولم تنفع دعوات أبنائه تعليمه الصلاة، كانت أذناه صامتتين تماماً حين يحاول أحدهم تلقينه بعض الآيات وكلمات الصلاة.

إلى أن جاءت المواجهة الحقيقية، المواجهة التي استفزّت مخيّلتي وجعلتني أكتب هذا المقال، حين نادى عليه الإمام: يا اسماعيل بنُ خوخي يرحمك الله، ذهبت عنك الدنيا وزينتها، وصرت الآن في برزخ من برازخ الآخرة، فلا تنسَ العهد الذي فارقتنا عليه في دار الدنيا وقدمت به إلى دار الآخرة…. “.

رغم أن الإمام لم يكن ضليعاً باللغة العربية فيفتح المجرور ويرفع المنصوب، لكنّه كان يرفع صوته بحدّة تشبه خطباً دينية على مواقع التواصل الاجتماعي، كانت الكلمات العربية العذبة تخرج من فمه كأنها حممٌ بركانية قُذفت من نار جهنم.

كمٌ من الأسئلة جعلني أخرج من ثباتي، ووضعية الوقار في حضرة الميّت، بدت قدماي تتحرّكان، وجسدي يحاول الخروج إلى أيّ اتجاه: اسماعيل لا يفهم العربية أبداً.. ما شعوره الآن إن كان يرى ويسمعنا نلقي عليه وداعنا باللغة العربية، نلقّنه كلاماً لن يفهمه ولن يحفظه، ربّما هو يشتمنا الآن، معتقدّاً إنّه يردّها.

أمسك الإمام بقبضةٍ من تراب، ألقاها عليه، ثم انهالت عليه من كل صوب، إنّه الآن يواجه اللغة العربية وسياطها من أضيق مكان، عليه مواجهة الظلمة وأربعة جدران تتحدث جميعها اللغة العربية، وإذا ما جاءه المَلَكان.. هل سيعرفهما أم سيعتقد أنّهما عنصران من الهجانة!

*****

خاص بأوكسجين

 


كاتب من سورية