تعد رواية آليس ووكر “اللون أرجواني” (تصدر قريباً عن دار المدى ونقلتها إلى العربية كاتبة هذا المقال) رواية مفصلية في تاريخ الرواية النسوية، وعملاً أدبياً تحررياً بالمعنى الإبداعي والفكري، حظي باحتفاء كبير سواء في أميركا أو في شتى أرجاء العالم، حيث حازت جائزة بوليتزر عام 1983 وجائزة الكتاب الوطني في العام نفسه، وبيع منها بعد خمس سنوات على صدورها أكثر من ستة ملايين نسخة حول العالم، ثم تضاعف هذا الرقم بعد عشر سنوات.
ترصد “اللون أرجواني” (طبعت للمرة الأولى عام 1982) العنصرية في الولايات المتحدة وتوثق روائياً تأثيرها على النساء بشكل خاص في ظل المجتمع البطريركي الذكوري، وتتخذ من قصة سيلي معبراً إلى ذلك جراء الاضطهاد الذي تتعرض إليه، والذي سرعان ما يصير إلى مآسٍ تنزل بها على أيدي الرجال، سواء جراء اغتصاب زوج أمها لها، أو تحويلها إلى خادمة مضطهدة على يدي زوجها، والذي سرعان ما يفصل بينها وبين أختها نيتي التي تكون الإنسان الوحيد الذي تحبه في هذا العالم القاسي، وصولاً إلى شخصيات أخرى تنوجد لتستكمل مشهد العسف الذي عاشه ويعيشه السود في قالب درامي تصعيدي يقود الشخصيات إلى متغيرات لن تكون إلا تمردية ثورية.
وظفت ووكر أسلوب الرسائل في السرد، لكنها رسائل سيلي إلى الله الذي لم تجد إلاه وسط عزلتها والظلم الذي ترزح تحته لتبعث إليه تفاصيل حياتها، ولتنتقل إلى مخاطبة أختها نيتي بعد اكتشاف أن هذه الأخيرة على قيد الحياة، وهنا تتبدّى ضرورة وجود استجابة وعليه تتعدد أصوات الرواة ويتنوع المستوى اللغوي للسرد. إذ إن سيلي تخاطبنا بلغة السود، وتمتلئ رسائلها بالأخطاء الإملائية والنحوية والجمل المفككة، بينما تصلنا رسائل نيتي بلغة إنجليزية سليمة تنم عن مستواها الفكري والثقافي. كما أن سيلي تتجنب ذكر أسماء الشخصيات الذكورية التي تضطهدها في بداية الرواية وتستعيض عنها بلقب السيد — للإشارة إلى زوجها مثلاً، رافضة إعطاءه هوية أو الاعتراف بهيمنته الذكورية. لاحقاً بعد تصالحها معه، تسمح لنفسها بمناداته باسمه لأنه الآن فقط تقبلها كندٍ له وبدأ بمعاملتها على قدم المساواة معترفاً بوجودها وشخصيتها. ومن خلال الكف عن ممارسة العنف الجسدي والجنسي والعاطفي، والاستعاضة عنه بتعامل إنساني مكتمل الأركان، ينجح زوجها ألبرت في الوصول بدوره إلى بر الأمان، والتصالح مع ذاته ومع الآخر. وكأن ووكر تؤكد على أن الخلاص جماعي دائماً، ولا يكتمل إلا بنجاة جميع مكونات المجتمع. وهذا ما يتجلى بوضوح أيضاً من خلال علاقة صوفيا السوداء مع إليانور البيضاء.
وتقول ووكر: “في الواقع، يوجد “أب” و “سيد” في حياة أي إنسان. قد يرتديا قناع الحرب، أو المجاعة، أو الإعاقة البدنية. قناع الطبقية والعنصرية والفئوية والجنس والمرض العقلي أو غير العقلي. تتجسد معانيها بالنسبة إلينا، ببساطة في أنها عرض، أو تحدٍ أرسله “الله” أقصد الكلي الحضور والسحر، مما يدفعنا للنضج. رغم أننا قد نصاب بالحيرة، وحتى بالأذى، كما حدث لسيلي، بسبب بنيته التاريخية والاجتماعية والنفسية، ولكن إن صبرنا فقد نصل، على غرار سيلي، إلى الدهشة ونسكنها: ومن خلال القليل من اللطف الغامض نحظى بالمفاتيح الصحيحة التي نحتاجها لفتح الجزء الأعمق والأكثر ظلمة في حصننا العاطفي والروحي، واختبار تحررنا وسلامنا اللذين لطالما تقنا إليهما”.
وفي مجتمع ذكوري استبدادي، تنجح سيلي في بناء رابطة قوية مع بنات جنسها ما يتيح لهن جميعاً التحرر والنجاة من خلال الإنتاج والاستقلال المادي والحب، ويمكن بسهولة ملاحظة أن معظم الشخصيات النسائية في الرواية يسكنها الضعف حين يكن وحيدات أو في عزلة، وواثقات من أنفسهن عندما يتكاتفن. وتعتبر “اللون أرجواني” قصة ملهمة لفتاة اكتشفت من خلال الحب صوتها في العالم وتغلبت على الانتهاكات والويلات التي تعاني منها النساء حول العالم.
وعن اختيارها لعنوان “اللون أرجواني”، تقول ووكر: “الأشياء في الطبيعة إما صفراء أو بيضاء أو خضراء، اللون الأرجواني موجود دائماً في مكان ما، وأحياناً يكون متوارياً في الألوان الأخرى، وعليك مراقبته لتلاحظ وجوده، الشيء ذاته ينطبق على الناس، تعتقد أنهم غير موجودين لكنهم هناك في الواقع، وتحتاج للقدرة على رؤيتهم”.
وتردف ووكر: “جئت إلى العالم وفي قلبي محبة الله. أقصد الله كلّي الحضور والسحر. كان حبي لله جلياً. وبفضل هذا الحب فإن العنصرية التي تمثلت بالاعتقاد بالمظاهر والذهنيات الفوقية والدونية فشلت في أن تؤثر بي. عجزت عن فهمها. بدت عمياء. قبلتُ الناس الموجودين في مجتمعي بفرح، بصرف النظر عن مظهرهم الخارجي وخصالهم، فقد تذوقت عجائبهم. وفي تلك الفترة، تنحى “الله” كلّي الحضور والسحر – بالنسبة لمعظم الناس – لصالح “صورة الله” (كما يسميها كارل يونغ) الذي يعبدونه في الكنيسة كل يوم أحد. تلك كانت الصورة الأولى المتخيلة لله، عقب أسرهم، وضربهم، وتجويعهم، وتكبيلهم بالأصفاد، ودمغهم بالعلامات، بعد اليوم الذي غادروا فيه بلدهم في أفريقيا. صورة الله كانت في الواقع لإله كما تخيله شخص آخر، وليس انعكاساً للناس الذين تم إرغامهم على عبادته. ولدت في زمن سمح لي برؤية بقايا هذا السلوك المحير القاتل للروح، والانضمام إلى حركة السود التي نشطت في الستينيات بهدف اجتثاث هذا السلوك”.
في العام 1985، وبعد ثلاثة أعوام من صدور رواية “اللون أرجواني”، اقتبس المخرج المعروف ستيفن سبيلبرغ الرواية لصناعة فيلم حمل العنوان نفسه، ويقول سبيلبرغ: “عندما التقيت ووكر، شعرت بأنني أخوض تجربة أداء وعلي إقناعها وتسويق نفسي أمامها، وكانت عقود طويلة مرت منذ اضطررت للقيام بذلك”.
ترشح الفيلم لإحدى عشرة جائزة أوسكار، وهو من بطولة ووبي جولدبيرج (سيلي) وأوبرا وينفري (صوفيا) وداني جلوفر (ألبرت). وفي معرض إجابتها على سؤال لاري كينج حول إن كانت حينها تعرف بأنها تمثل في فيلم عظيم، تقول أوبرا: “رواية “اللون أرجواني” غيّرت حياتي. إنها إحدى المنعطفات الجوهرية في حياتي. لم يؤثر شيء علي أكثر من الرواية، روحياً وعاطفياً ونفسياً، وأسهمت في تحديد مساري، وغيّرت إيماني. عندما تلقيت اتصالاً لتقديم تجربة أداء (..) كان ذلك بمثابة حلم يتحقق، كنت لأقوم بأي شيء فقط لأكون في موقع التصوير، حتى لو كنت الساقي الذي يروي ظمأ طاقم عمل الفيلم، وكنت لأرضى بمجرد البقاء في المكان، وأعتقد أن هذا هو المعنى الحقيقي للحب”.
وفي العام 2005 تحولت “اللون أرجواني” إلى مسرحية موسيقية ناجحة على نحو استثنائي على مسرح برودواي، وكانت دور العرض تعج بالجمهور كل ليلة على مدار ما يزيد عن سنة. وبعد عشرة أعوام على نقل “اللون أرجواني” إلى “برودواي»، تم عرضها في العام 2015 على أكثر المسارح احترافاً في أميركا ضمن عرض غنائي أخرجه جون دويل: مسرح “بيرنارد بي جايكوبز” في نيويورك، حيث أدت بطولته سينتيا إيريفو (بدور سيلي)، وجينيفر هودسن (شوغ) ودانيال بروكس (صوفيا).
ولدت ووكر لأسرة من المزارعين المستأجرين مكونة من سبعة أطفال، وترعرعت في جورجيا. وأصيبت بالعمى في عينها اليمنى عقب حادث تعرضت له في طفولتها، وخشيت في لحظة ما فقدان بصرها، مما دفعها لمراقبة الناس والشخصيات والطبيعة وكل شيء حولها. تخرّجت ووكر في العام 1961 لتنال منحة جامعية في كلية “سبلمان” التي فيها قابلت مارتن لوثر كينج والذي أثّر لقاؤه في حياتها مستقبلاً.
لم تكتفِ ووكر بمراقبة الأحداث وكتابتها، بل عمدت إلى المشاركة فيها وصنعها، وانخرطت في العمل الحقوقي بعد تخرجها من الكلية، وعملت لصالح حركة الحقوق المدنية في جورجيا. وتعد ووكر روائية وشاعرة وقاصة وناشطة حقوقية، لديها ما يزيد عن 13 رواية ومجموعة قصصية، إضافة إلى عشر مجموعات شعرية، وعشرات المقالات، علاوة على مجموعة من كتب الأطفال. عرفت ووكر بمناهضتها للعنصرية في كل مكان، ورفضها لحرب فيتنام وحرب العراق، ونصرتها للقضية الفلسطينية.
وسجّلت ووكر مواقفها إزاء مختلف أشكال الفصل العنصري، أهمها رفضها الشديد عام 2012، لصدور ترجمة إسرائيلية لروايتها هذه بما أنّ إسرائيل تقوم على العنصرية “وهي مذنبة بالأبارتهايد واضطهاد الشعب الفلسطيني”.
اسم الكتاب
اللون أرجواني
اسم الكاتب
آليس ووكر
الناشر
دار المدى