بورتريه واحد للشاعرة.. يكفي الثورة أن تتعرف على وجوهها.
على امتداد عقود احتكر الشعراء الكبار كتابة قصيدة الحدث كنوع من الترف الشعري، لكن بعد الانفجار الكبير الذي عرفته المنطقة العربية، صار مألوفا بشدة أن يقتحم الجيل الجديد استعجال التاريخ الذي قفز من رتابة ساعات الأبراج العالية إلى الساحات العامة و الشوارع؛ حيث يتواجد الشاعر بغير اختياره أمام إكراه الحاضر.
في مكان ما لا نستطيع تحديده بالضبط تقف القصيدة بإزاء العالم و تحدق إلى الأشياء التي تبدو مرئية بشكل غريب. الرؤية شفافة جدا ليس بسبب قربها فقط من الضوء، إنما جراء فوضى الحريق الذي يشتعل دفعة واحدة.
ثمة عالم يحترق، وثمة قصيدة تطيل النظر إلى العالم الذي يبدو لأول مرة مرئيا فوق العادة فقط في حريق الحاضر الذي خرج عن سيطرة الإطفائيين. الصور المنهمرة التي لم تجف بعد تتلاحق كالأنفاس على امتداد النص؛ حيث تتوهج بألق مهيب غير مسبوق قبل أن تنطفئ و تتلاشى في فراغ الوداع الأخير الذي يعتبر بحق الفضاء المنذور على الدوام للقصيدة.
كلما كان الشعر حاذقا في الإمساك بلحظة الوداع الأخير هذه، كلما كان صادقا في البحث عن شاعرها الأثير؛ إنها لحظة المؤاتاة الشعرية الفارقة داخل استحالة الزمن، تماما كما يولد الشعراء على مر العصور في المفارق الزمنية الكبرى.
حقا لن ينقذنا سوى هذا الشعر.
الديوان الأول للشاعرة سماح البوسيفي “المخطوط”، ينخرط على الفور في حركية تاريخ قيد الحدوث، يمكننا أن نطلق عليه “الحاضر المستمر” الذي يكرس المضارع كنقطة توتر بين استمرارية الماضي و المستقبل في حبل زمني مشدود يوشك على الانقطاع. لذلك لا يقترح الديوان أي مرْوي ملحمي أو تراجيدي، كما لا يدلي بأية شهادة شعرية بالنظر إلى ارتباك المرحلة ولانهائيتها؛ بقدر ما يحاول خلط وبعثرة الأوراق و السجلات فيما بينها للمزج بين الواقع المعيش و الواقع المتخيل ( أيهما أوسع حجما يا تونس، شوارعك أم صدري؟). بما أن اللحظة الراهنة اقتضت أن يتداخل التاريخ الشخصي للشاعرة بالتاريخ الذي اقتحم الغرف الداخلية محتميا من ضجر و برودة المباني الرسمية الفظة.
الأنا الشاعرة هنا مترحلة باستمرار داخل الكينونات، و لا تسعى إلى أي نوع من الامتلاك؛ بسنواتها المتروكة على بعد مسافة تسمح بالتخفف من العبء الزائد حتى تتمكن من قطع رحلة العمر الطويلة في ليلة قصيرة. تماما كما تُختزل مساحة العقل الشعري إلى نصف وزن الجسد، يَختزل الليل سنوات العمر إلى ساعات ضوئية، بمعية حلم ليس سوى مجرد وسيلة نقل سريعة يمكن الاستغناء عنها عند أول محطة منتظرة، هي أيضا ليست سوى عتبة صلبة للكتابة تطأها الأنا الشاعرة برشاقة في مقاسها التونسي بأكمام واسعة.
هناك
في عمرك الذي يبلغ نصف وزنك تقريبا تبدو مساحة
عقلك هي التالية : 30
سنة تركضين من بيتك إلى حلمك وهو ما قد كلفك قطعة
كاملة من الليل. سنواتك هي:
أنت إذا ما صح القول هكذا،
تترجلين من حلمك نحو أقرب نص،
هو النص ذاته تقريبا و تبلغ مساحته 30 شمعة.
يقع النور فيه وراء السطور و سأتهكم هنا:
امرأة تقع في وطن مقاسهما معا تونس بأكمام واسعة!
اللافت في هذا الوقوع الذي يتخذ شكل الحب الفجائي حتى ينأى عن الانتماء التقليدي الاستجابة الفورية لوطن/حدث طارئ؛ تجازف الشاعرة بالانضمام إليه ممسكة بنسغ اللحظة الشعرية في لقائها النادر مع اللحظة التاريخية؛ بحيث تزول المسافة بين الشعر والتاريخ، دون أن يؤدي ذلك إلى أي نزوع إلى تمجيد أو تكريس الراهن، أو الوقوع في مطب الشعر السياسي. شعرية المجازفة تظل مفتوحة على جميع التحولات التي تؤتى من الحس الإنساني و النقدي العاليين بالفاجع؛ فحيثما مررت الشاعرة يدها على جسد النص تكتشف كدمات للتاريخ الذي يستوطن جلدها.
كان الوطن وسادتي الأثيرة. وظل المصطلح يتضخم في رئتي
حتى دخلت الأدب و شفيت من زوائدي العاطفية و تطلعت
لحقيقة الوطن. نحن فقط أوطاننا.
ما زلت أربِط جسدي بتراب مدينتي، خلق الله مدينتنا من
حفرنا و فوهاتنا، من ثقوبنا و مساماتنا، أمكنة الضوء
والنور و الألم.
الأكيد أن شيئا ما يتلاشى مفسحا لشيء آخر يتحسس طريقه..و كما دائما لا يوجد سوى شاهد وحيد يفكر في عين المكان و الزمان بذات المخاض مستعجلا طلقة الميلاد.
تحسن القصائد الحياة!
تشترك القصيدة/ المعنى التي تتواجد بعين المكان بمحض الصدفة و التاريخي/ الحدث في تشييد المبنى قيد الإنجاز. محترف الشاعر يقف بإزاء محترف الحاضر؛ كما أن بناء الحاضر لا يكتمل، يظل أيضا بناء القصيدة غير مكتمل. ليست الكتابة في هذه الحالة عقابا انطولوجيا، إنما متعة القصيدة في الدوران بمبناها حول الشمس ( للغة طوفان ودوران)؛ خصوصا أن فعل الكتابة لدى الشاعرة يتأتى فقط من فقدان القدرة عن التوقف على الكتابة ( وحده النص كان حقيقيا،لا تكفيني المرايا لأكشف وجهي كاملا). لحسن الحظ و الشعر هذه الشراكة لا تصدر ولا تفضي إلى أي نوع من التورط الإيديولوجي في السياق الحاضر.
يخيّلُ لي إني واقفة، لكني أقع دائما، هنا قد أتحدّثُ عن
المساحة كتقدير حقيقي للألم.
ربما يمكننا أن نستشف فقط نوعا من التورط العاطفي يمارس بدوره لعبة توريط سياق الأحداث – ما أمكنه – في هامش النص؛ لأن الشاعرة التي راهنت بشكل تلقائي و حميمي (بمعنى دون معرفة واعية) على المبدأ الشعري المنظِّم للوجود؛ ليس لديها أي تصور مسبق للعالم، فكل ما تمتلكه صياغة عاطفية هائلة للأشياء تغرف من الخزان المليء بالصور/الأحاسيس.
إليك من قاع العالم أكتب،
لن يظل العالم صغيرا،
سيكبر فوق أصابعي،
و سأكبر!
القصيدة تكتفي بفتح النافذة للصورة كي تتحول من مرئي إلى إحساس داخلي في اللحظة ذاتها التي يستعجل فيها إحساس الداخل التحول إلى صورة مرئية. الخارج والداخل يمارسان لعبة المرايا العاكسة التي لا تنتهي في الأشعة التي تتبادل الأدوار والأمكنة حاملة محمولة.
في غرفتي،
أجرب أحمر شفاه،
كآخر انتماء،
للخريطة التي لا تعرف شيئا عن الوطن!
“هنا تونس تحديدا”.
بداهة الزمن بالنسبة للشاعر حقيقة واضحة و لغزا محيرا في آن معا؛ إنه الالتباس الذي عبر عنه ريني شار بقوله:”الوضوح أقرب جرح للشمس”. سنلاحظ محاولة الشاعرة المستميتة للقبض على الزمن داخل الكلمات ( في النص، مكان لتمضية الوقت)، فما يحدث في الواقع يمكن أن يجد جذرا له في اللغة (حين كانت اللغة رابطا دمويا بين الغرباء. قررت أن أكتب لأتعرف على أبناء دمي)؛ بتفطن القصيدة إلى أن الصلابة شعريا هي الضمان الوحيد للملمة شتات الزمن أو الصيرورات داخل أطار لغوي محكم، بحيث تصير كل مفردة شعرية المعادل الموضوعي لما يجري خارج النص ( نقطة للوقوف(.)، فاصل للجلوس (،)). لكن مهما اتخذت هذه الصلابة الشعرية منحى متقدما في النصوص القصيرة لا تختلف جذريا عن النصوص المطولة؛ إذ تحافظ المفردة على خاصيتها الاختزالية في بنية الجملة التي تقترف جمالية الحذف ( الحياة التي رويتها في سطر كامل تطلّب عيشها نصا بأكمله)؛ والتي تسعى إلى توريط القارئ كمخاطب مشار إليه بالحرف ( لا تنزعج أيها القارئ) على امتداد القصيدة ليتعقب المفردات المحذوفة عن عمد؛ يصير معه القول الشعري مرادفا للصمت المليء أو( آخر الصمت) كما تصطلح عليه الشاعرة في قصيدتها؛ بالقدر ذاته الذي يمارسه الزمن عندما يختزل سلاسله الطويلة في لحظات أثيرة يصطلح على تسميتها بالسعادة ( أهرب كل يوم، من منزلنا، لأنام في الفراغات). الأبجدية سعادة مليئة تجُبّ كل المتناقضات الوجودية التي تحاول القصيدة تجميعها و الإمساك بثروتها.
لا أحسن العدّ أبدا!
مثلا، دمعة واحدة كم تساوي من صفعة،
أجرب أصابعي كلها،
لمعرفة الفارق بين الحزن و الموت،
فأعدُّ!
عيِني التي تغرق هل تعرف حقا،
وجه الشبه بين بئر و حريق!
أعدّ:
سماء واحدة كم تساوي من إله؟
…..
في بيتنا،
أعدُّ بابا أخيرا، لتعرف الشجرة آلام الغابة و الحديقة!
أم واحدة،
وحيدة،
لأعُدّ:
أمّ،
أمهات،
فأكتب..
لا أحب الأعداد!
فأكتب..
فقط “أمي”.
هكذا سيتشكل المخطوط كالقماش شيئا فشيئا في نسيجه اللغوي المحبوك داخل السياق الكبير( محل الخياطة)، غير أن المرجعية الذاتية ( مواعيد-ي- أبدّلها يوميا) ستحافظ على نفس الألق و الراهنية للانغراس في إحالاتها الخاصة ( يبلغ مقاس بطني كتابا) فيما تتطلع بشغف إلى ما هو قيد الإنجاز في مختبر اليومي ( يشتري –الخياط- كل يوم سنتيمترا إضافيا).
هذا السنتيمتر المضاف كل يوم هو رهان النص على اللامكتمل بمسودته غير المنتهية، كحلٍّ أمثل لمعادلة الفكرة و القماش.
في دفاتري مواعيد كثيرة لمحل الخياطة،
أبدلها يوميا،
أقيس جسدي في الصباح،
يبلغ مقاس بطني كتابا،
يعرف الخياط تفاصيل كثيرة عنه،
! أحدثه عنه في الصباح وفي المساء
أسأله عن لحظات توتري الكثيرة،
و ثقل رأسي.
يحدثني عن القماش في فساتيني،
يشتري كل يوم سنتيمترا إضافيا،
يحاول أن يعدل بين الفكرة و القماش!
القصيدة المترامية الأطراف تسرد تونسها الصغيرة.
*****
خاص بأوكسجين
اسم الكتاب
المخطوط
اسم الكاتب
سماح البوسيفي
الناشر
دار هنّ