ينفي إيفان في “الإخوة كارامازوف” لدوستويفسكي أن يكون هنالك شيء في عالم ما بعد الموت غير العدم من خلال حوار بين شخصيتين:
_ هل هناك شيء بعد الموت! هل هناك حياة أخرى، أية حياة أخرى، ولو شبح حياة أخرى، شبح صغير، صغير جداً !
– لا شيء بعد الموت!
– لا شيء البتة !
– البتة.
– أهو العدم المطلق إذن! أم يوجد شيء ما رغم كل شيء! ربما وجد قليل من حياة مع ذلك! القليل خير من لا شيء.
– لا شيء إلا العدم الكامل! صفر، لا شيء أكثر من ذلك !
في حين تختلق الروائية مها حسن عالماً خاصّاً لما بعد الموت في رواية “نفق الوجود” (الكوكب، رياض الريّس للكتب والنّشر 2014) : “ينعدم اللّون في اللاهناك”، ولا زمن “سوى الراهن، الحالي، الآني” حيث تسقط أفعال الماضي من حديثهم غير المنطوق أساساً، “إنّهم يتكلّمون دون نطق، يتفاهمون بالوشوشة التي تبثّها أفكارهم لا ألسنتهم”، أمّا أسماء الميتين فتّتخذ شكل الأفعال ليصبح اسم مها “تتماهى”.
تتقمّص حسن في روايتها “نفق الوجود” الشخصية التي تكتبها صراحةً وتسمّيها باسمها، وهي ليست المرّة الأولى التي تزجّ بذاتها في روايتها باسمها الصريح فقد سبق وأدخلت نفسها في رواية “تراتيل العدم”.
منذ السطور الأولى تُنزل حسن قارئها إلى القبر مع “مها” من دون أيّة مقدّمات، وتبدأ رحلتها في عالم ما بعد الموت الذي تبدو فيه غريبة عن بقية الموتى، وتستغرب من كل ما يحيط بها لتصل حدّ الاستهجان والتمرّد.
تستهجن مها_تتماهى كلّ شيء في عالم الموت “اللاهناك” كما تسمّيه، حيث “الطعام دون طعم” وكأنّها تأكل في نومها، والملابس بلا لون “لا أريد ارتداء هذا الثوب الرديء، أفضّل البقاء عارية”، وتلخّص مشاعر الميت في سابقة روائية قد تُحسب لها من خلال دقّة الوصف: “وحيدة أنا، حولي غبار كثيف ووحدة هائلة، لديّ إحساس بالتخلّي والفقدان، هذا صعب، وحيدة أنا، مسؤولة عن مراقبة ما يجري، يجب أن أفهم كلّ شيء وحدي، لم يشرح لي أحد، لم ينبّهني أحد، لم يعلّمني أحد، لم أجرّب الموت ولا أعرفه”.
يمكن لقارئ ما أن يمرّ بهذه السطور على عجالة، فيقرؤها قراءة سطحية لا تنفذ إلى عمق فكرة أن يشعر الميت بالتخلّي مثلاً، أو أن يشعر بالضياع وهو يحاول لملمة الخيوط الغريبة من حوله عساه يفهم أين هو وماذا يحدث له. وهنا لا بدّ من استحضار جدارية محمود درويش التي خاض فيها تجربة ما بعد الموت، ووصف حاله ومشاعره خلال ذلك:
وكلُّ شيءٍ أبيض،/ البحر المعلّق فوق سقف غمامة/ بيضاء. واللا شيءُ أبيض في / سماء المطلق/ البيضاء. كنتُ، ولم/ أكن. فأنا وحيدٌ في نواحي هذه / الأبديّة البيضاء. جئتُ قبيل ميعادي/ فلم يظهر ملاكٌ واحد ليقول لي:/ “ماذا فعلتَ هناك في الدّنيا؟”/ ولم أسمع هتاف الطيبين / ولا أنين الخاطئين. أنا وحيدٌ في البياض/ أنا وحيد.
ربما كان السبب الأقوى في جعل موضوع الموت من ألصق الموضوعات بالفلسفة الوجودية كونه حادثاً كلياً كلية مطلقة من ناحية، وجزئياً شخصياً جزئية مطلقة من ناحية أخرى. وهو ما يؤكد عليه د. عزت أحمد في كتابه “الوجودية العربية بين بدوي وزكريا إبراهيم”، “فالكل فانون “كلّ إنسان فان”، ولكن كلاً منا يموت وحده، وحده فقط، ولا بدّ أن يموت هو نفسه، ولا يمكن أن يموت أحد غيره بدلاً عنه”. من هنا لا بدّ من استحضار الفكر الوجودي أثناء قراءة رواية “نفق الوجود” الذي لكثرة ما تحدّث عن الموت ليس من باب مناقشته كقضية فلسفية كما يقول د. عبد الرحمن بدوي: “الموت ليس مشكلة فلسفية بل المشكلة هي “أني أموت”، وفارق هائل بين أن أبحث في الموت بوصفه معنى عامّاً مجرّداً وبين أن أبحث في أنّي أموت”. واستناداً إلى وعي الوجوديين بهذه المشكلة حرصوا على مواجهة الموت بوصفه حقيقة واقعة، فكامو وسارتر مثلاً يصرّان على الحاجة إلى مواجهته. والمشكلة التي يطرحها المقطع السابق من رواية “نفق الوجود” يختصره ألبير كامو بجملة: “لا يمكن أن تكون لي تجربة موت الآخرين”، ولكن الكاتبة ذهبت أبعد من هذا وانتقلت إلى عالم ما بعد الموت، ورسمت له أحداثاً وشخصيات ومشاعر، وهو ما يميّزها بالنّظر إلى عشرات النصوص الأدبية والفلسفية التي تناولت موضوع الموت كحادثة ستقع لهم أو وقعت لغيرهم.
لم تظهر الرواية حياة مها_تتماهى قبل أن تموت، بل بدأت بموتها ولم يكن هنالك أية إشارة إلى ما كانت عليه في حياتها، وبالتالي من الواضح أنّ الهدف الأساس والوحيد للكاتبة هو تسليط الضوء على ما بعد الموت، وهو نادراً ما يحدث في الأدب، وهنا لا بدّ من استحضار رسالة الغفران لأبي العلاء المعرّي، والكوميديا الإلهية لدانتي اللّتين تحدّثتا عن أحوال الجنّة والنّار، وكانت فيهما رحلات إلى العالم الآخر وذكر تفاصيل منه، وكذلك وردت على لسان الصوفيين أحاديث لموتى زعموا أنّهم زاروهم وتحدّثوا إليهم.
بالإضافة إلى حادثة معراج الرسول ومشاهداته في الجنّة والنار، ومثل الغني وأليعازر في إنجيل لوقا “أحد الأناجيل الأربعة في العهد الجديد”. كلّها نصوص أوردت ذكراً لعالم ما بعد الموت، ووصفاً لبعض ما يحدث فيه.
تسهب الكاتبة في وصف ما عاشته بعد موتها من ضياع في حياة أشبه بالحياة البرزخية، إلى أن تزعم في نهاية روايتها أنّ جهاز تصوير صوّر فيلم وجودها في اللاهناك، وتعد بأنها سترسله يوماً إلى الأحياء. ثمّ تباغت القارئ بمصيرها في إحدى درجات الموت التي أخذت تتدرّج بها، والتي لا تعرف إن كانت آخر درجاته أم أنه سيكون هنالك المزيد بعد، فتخبر أنّ “سيّد المكان” الذي التقته أخيراً أخبرها بمصيرها: ” أما أنتِ، فلن تذهبي إلى الفردوس، ولا إلى الجحيم. صفحتك متوازنة بدقّة كما لو أنّك كنت تقومين بأي فعل، ثم تقومين بالمقدار ذاته بما يمحوه […]، بالقدر الذي ارتكبتِ به المعاصي، كنتِ ترتكبين فيه المزايا. لذلك فكلّ ذنوبك يمحوها الخير، وكلّ ميّزاتك يمحوها الشرّ، لذلك سوف يحكم عليك بالمرجوحة”. وربّما في هذا الحلّ الذي تنفرج فيه رواية على هذا القدر من الضيق، مخرجاً محبّباً للقارئ الذي كاد يختنق من ضيق القبر، وغرابة ما حدث بعد نزوله.
وقد يرتاح الكثيرون لهذا المصير، ويتوقعونه في آخرتهم كون الإنسان بالمجمل يصعب أن يزعم بأنّه ذلك البارّ بالمطلق، وكذلك يصعب أن يرى نفسه شريراً بالمطلق.
غير أنّ مها حسن تزيد من اشتعال نار المغالاة في تقبّلها لمصيرها فتقول: “لا أخفي متعة التجربة لمتعة الكتابة عنها، فالجنّة ثابتة وكذلك الجحيم، أما هنا فكلّ شيء متحرّك، وأنا بين الاثنين. إنّه يلبّي حاجتي المستمرّة للكتابة”. وهي بهذا تتفوّق على نفسها في شغفها بأن تستلهم الكتابة حتى في عالم ما بعد الموت، لتكون من كتّاب ذلك النّفق الإجباريّ لوجود يظلّ مجهولاً مهما أطلقنا الخيال فيه، وحاولنا توقّعه، فالحياة كما تقول مها “تجربة، والموت هو التحقّق”.
اسم الكتاب
نفق الوجود
اسم الكاتب
مها حسن