هل تنتهي المعارك بتوقف إطلاق النار؟ هل تندثر الجراح بلمح البصر؟ هل ينقضي ذاك الإرث الثقيل ببضعة أيام؟ هل التهليل أو الصراخ واتباع الشفاهية أو حتى “تبويس الشوارب” مصدر طمأنينة وسبيل للمضي قدماً نحو المستقبل؟
الجراح التي تثقل المجتمع لا تندمل بسهولة، خاصة تلك التي تصيب الهوية الجمعية ومعنى الانتماء. في هذا السياق تصبح السرديات أداة أساسية، ليس فقط لرواية ما حدث، بل لتجاوز الألم وإعادة بناء الثقة وصياغة مستقبل مشترك. إذاً هل نبدأ معارك أخرى في التنازع على السردية التي ستتوارثها الأجيال؟
في النزاع الذي شهدته سورية في الثمانينيات لم يتمكن أي طرف من فرض سرديته للأحداث كحقيقة مجمع عليها حتى ممن سحق وانتصر، وبقي الجرح مفتوحاً تتناهبه الإيديولوجيات المختلفة وتبني عليه ما يتفق مع مصالحها.
إذاً هل يمكن توثيق الألم والاستماع إلى حكايات الضحايا جميعهم دون تشنج يفرض رواية بعينها وإن غلبت! إن الإجماع على مجرم كبير يتحمل مسؤولية سوق البلاد إلى ما آلت إليه لا يلغي الجرائم الأخرى، فهل نحن قادرون على التغلب على الانقسامات، وإتاحة الفرصة لإنشاء سجلات تاريخية دقيقة بعيداً عن ما شهدناه خلال العقد الماضي ونشهده كل يوم على الشاشات بأنواعها واختلاف مرجعياتها وانتماءتها، على شيء من المازوشية، في رفع سقف الألم والخوف وكأن فداحة كل ما حصل لم تكن كافية.
هل يصح المثل القائل “الإنسان لا يتعلم إلا من كيسه”؟ فنحن متأخرون أصلاً عن العالم وأظن أن الأجدى أن نتعلم من تجارب الشعوب الأخرى التي مرت بتجارب شبيهة ولم تتمكن من تجاوزها إلا برواية وطنية تعترف بجميع الأطراف، مع التركيز على القيم الجامعة لضمان عدم تكرار الأخطاء نفسها وعدم إعادة المآسي والانقسام وتبادل اللوم، رواية أشركت الضحايا والجناة -وما أكثرهم في سورية- في عملية السرد حرصاً على شموليته.
سورية بجغرافيتها الخطرة، وكأنها على خط زلازل بين امبراطوريات كبرى بمطامع ليس لنا فيها مكان.
سورية بتاريخها الحديث القلق، الحافل بالانقلابات ومن ثم القمع والتهميش والإبعاد عن الحياة السياسية.
في سورية هذه التي نحبها جميعاً، هل سنتمكن نحن السوريون من تجاوز الرواية التي تتوقف عند اللوم وتركز على الانتقام؟ هل سنتمكن من تشكيل لجان حقيقة ومصالحة تعيد بناء الثقة بيننا، وتتيح لنا الاعتراف بالجرائم جميعها وتحمل المسؤولية عنها لنمنع بلدنا من الانجرار إلى مزيد من الخراب الذي لا ينفع إلا في إذكاء مطامع الآخرين؟
اليوم وقبل أن نلتقط أنفاسنا، نتقاذف كرات النار بيننا ونعلي الصوت ونخرس كل من لا يعجبنا، أجدني أتذكر مجدداً طرفة بن العبد -وكم تذكرته في السنوات الماضية- … وبيته الشهير “كلهم أروغُ من ثعلبٍ… ما أشبهَ الليلةَ بالبارِحة”
وفي الوقت الذي نقف فيه على مفترق طرق: هل نبقى كأننا أطرافٌ متنازعة بدلاً من أن نكون شعباً واحداً في وطن واحد، بينما نخسر كل يوم من جغرافيتنا وحدودنا وسيادتنا!
*****
خاص بأوكسجين