للعين القابعة خلف عدسة الكاميرا أن تقرر ما الذي ستلتقطه، ومن أين ستلتقط ما يشكل حياة كاملة، أو حيوات تشكلت بعيداً عن ما يراد إيهامنا بأنه محقق، بينما الفقر والظلم مغيبان عن الصورة الرسمية، وهناك مجاميع بشرية كاملة تعيش معلقة بين السماء والأرض، خارج الزمن. وهناك من يدعي أنه أدخلها الزمن: إنها الكاميرا ما يمتلك القدرة على التعرية وهي توثق البؤس، تجد في الهوامش مساحة كاملة لمجابهة المتن، وإيصال حيوات بشر ملفوظين.
ما تقدم هو المعبر إلى أفلام المخرج السوري عمر أميرلاي (1944 – 2011)، هذا السينمائي الذي كان منغمساً تماماً بكل ما له أن يكون مفصلياً في حياة شعبه، وفي رهان كامل على السينما الوثائقية التي وجد فيها أداته لتوثيق بلده، عبر المضي إلى الأطراف وتقديمها كوثيقة تعري المركز وأوهامه، وفي فعل ريادي يحتمل دائماً أن يكون الشكل والمضمون على تناغم مدهش، حيث قدمت أفلامه مقترحات بصرية وجمالية طليعية على السينما العربية، وتحديداً الوثائقية منها حين لم يكن هذا النمط السينمائي بحضوره اليوم، وعليه كان رهان أميرلاي وهو يجد في الواقع كل الدراما التي لا لزوم لأن يبتكرها، بل أن ينقلها على طريقته الخاصة.
عمر أميرلاي وبمسيرته السينمائية التي تمتد لأكثر من 20 فيلماً، قدم سجلاً سينمائياً هائلاً عن الشقاء السوري، مقارباً إياه برؤيته الفكرية والسياسية النقدية، مجسداً تماماً توصيف دزيغا فيرتوف للفيلم الوثائقي بوصفه “هجوم آلات التصوير على الواقع بما يضمن صورة حقيقية ويهيئ في خلفيته التناقضات الطبقية والاجتماعية موضوع كل العمل الخلاق”، ومضيفاً على ذلك اشتباكه بهذا الواقع والذي يتجاوز وصفه بالمهم نظراً للعمق والحيوية النضالية التي يتمتع بها أميرلاي المثقف، وعليه فإن أفلامه وفي مستوى آخر كانت اندماجاً للشخصي بالواقعي كما فعل في فيلمه عن رئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق الحريري “الرجل ذو النعل الذهبي” حيث حول الفيلم إلى اختبار سينمائي لعلاقة المثقف بالسلطة بالمال، أو كما هو الحال مع “طبق سردين” حيث يقول لنا أميرلاي بأنه وكلما ذكرت اسرائيل كان يشم رائحة سمك السردين.
مقاربة سينما أميرلاي الوثائقية ستكون في اتجاهين، الأول يأتي من بدايته مع فيلم “محاولة عن سد الفرات” عام 1970، حيث التوثيق سيكون لعملية التحديث التي بدأت في سورية بعد الحركة التصحيحية، مروراً بفيلمه الثاني “الحياة اليومية في قرية سورية” 1972 حيث الأمر مختلف تماماً هنا، إنه يتعقب البؤس، يمضي مع البشر في قرية “مويلح الجنوبي” حيث لا شيء سوى قسوة الطبيعة وانعدام أدنى شروط الحياة، وعدا عن جماليات الصورة التي يقدمها أميرلاي في الفيلم في إحاطته بشتى جوانب الحياة في تلك القرية، فإنه يقدم سرد يعتمد روايتين، فما نسمعه على لسان المسؤولين تقابله صورة الواقع دون رتوش، فحين يقول طبيب الناحية أن الوفيات بين الأطفال قليلة يطالعنا الواقع الذي تتعقبه الكاميرا بغير ذلك، كما أن معلم المدرسة الذي يسأل الطلاب الاهتمام بغذائهم، فإننا نسمع ذلك بعد أن نكون قد عرفنا أن غذاء كل من في القرية ليس إلا الخبز والشاي، وأن الأغلبية تعاني من فقر الدم.
عمر أميرلاي وفي أواخر أفلامه سيعود إلى تلك القرية وسيقدم فيلماً آخر في عام 2003 عنوانه “طوفان في بلاد البعث” حيث لن يتردد ومع بداية الفيلم من أن يعلن تنصله مما يصفه “انحيازه إلى التحديث في سورية” والذي كان نتيجته إخراجه فيلمه الأول “محاولة عن سد الفرات”، واصفاً ذاك الانحياز بالخاطئ، وليكون هذا الفيلم بمثابة وثيقة ترصد ما صار إليه سكان من يعيشون على ضفاف “بحيرة الأسد”، والفيلم من بدايته إلى نهايته سيضيء للمراحل البعثية التي يعيشها الطلاب، من طلائع البعث إلى اتحاد شبيبة الثورة، وفي ثنايا ذلك فإن أميرلاي يرصد فقط منطق البعثيين القائمين على تلك المنطقة، بما فيهم الشيخ دياب الماشي عضو البرلمان السوري من عام 1954 والذي توفي عام 2009 وصولاً إلى حفيده مدير المدرسة.
الأفلام الثلاث التي أوردتها لها أن تكون نماذج عن مقاربة أميرلاي للمهمشين والمنسيين، ويمكن إضافة فيلم “دجاج” إليهم باعتباره هو الآخر مقاربة لقرية “صدد” السورية، وخيبات الفلاحين المتوالية من الجفاف وصناعة العباءات وصولاً إلى تربية الدواجن، ولا بل إن أميرلاي لن يكون ببعيد عن مجاز الدجاج والتدجين.
بالانتقال إلى نماذج من أفلام يمتزج فيها الشخصي بالتاريخي، فإننا نعود إلى قصة أميرلاي مع اسرائيل ورائحة السردين، كما سيقول لنا في فيلمه “طبق السردين”، حيث سيبدأ من مدينة القنيطرة السورية حيث العلامة الفارقة للوحشية الاسرائيلية، سيكتشف أن المبنى الوحيد الذي بقي بعد التدمير الاسرائيلي لهذه المدينة هو “سينما الأندلس”، وسيجد في ذلك مدعاة لتذكر أول مرة سمع فيها كلمة إسرائيل، أي في بيروت عند خالته المهجرة من يافا وزوجها الذي كان يصطاد يومياً السردين.
هذا السرد الذاتي سيتحول إلى مخاوف شخصية تتجسد بقوة في فيلم “الرجل ذو النعل الذهبي” عن رفيق الحريري، فهو سيبدأ من مخاوفه من علاقة المثقف بصاحب المال والسلطة، سيتكلم عن “هلوسة مثقف مذعور”، سيستعين بإلياس خوري وسمير القصير وفواز طرابلسي، سيجد نفسه في موقع من يمثلهم أيضاً ويقول إننا نلعب لعبة “تسجيل النقاط على الآخر”. سيروي أميرلاي في الفيلم إنه وطيلة تصويره الفيلم كان ينتابه شعوران متناقضان “الود والريبة”، وسيقول بينما يمضي الحريري في الإجابة على أسئلة كثيرة “استوقفني نعل رفيق الحريري الجديد.. والمفارقة بين رغبته بمعرفة الناس ونعاله التي لا تعرف غبار الشوارع”.
أميرلاي قارب لبنان قبل “الرجل ذو النعل الذهبي” من خلال حفّار قبور في الحرب الأهلية، ومضى معه ليقارب الحرب تحت عنوان “مصائب قوم”، ووجد فيه معبرا كاملاً إلى حجم القتل والدمار الذي حملته تلك الحرب، ملتقطاً في ذاك الذي يقول له “أحب معاشرة الأموات أكثر من الأحياء” تجوالاً توثيقياً لشوارع بيروت وقبورها.
عمر أميرلاي وفي موته الشخصي لم يمنح فرصة لأي أحد أن يشاهد كيس “سيروم” معلق، بينما الكاميرا مثبتة على نزول السائل نقطة نقطة، أو أن يصور مخرج آخر احتضاره كما فعل مع صديقه وشريكه الكاتب الراحل سعد الله ونوس في فيلمه عنه، فهو لم يكن بحاجة إلى ذلك، حسبه أفلامه وهي تضع أمامنا حياته وحياتنا متضافرتين، حياة وثّقت وتوثقت بالتزام المثقف المهموم بهموم جمعية وشخصية.
*****