سيرة سورية لما بعد هروب بشار  
العدد 291 | 26 كانون الأول 2024
زياد عبدالله


وهذا يا سادة يا كرام،  بلغني أن بشار هرب إلى أرض البلغار، كما أجمعت جمهرة من الرواة، وشتى صنوف الشاشات والتلفزات، لا هو خبّر بمخبّر ولا نبّه بمنبّه، ولا همس ببنت شفة لأقرب مقربيه، وضع طاقية الإخفاء فإذا به في أرض البلغار، وفي رواية أخرى قيل إنه فص ملح وذاب، أو شمّع الخيط وولى الأدبار.

وتوالت الأنباء، وعمت المباهج والأفراح، والليالي الملاح، ونسي السوريون بشّار في بضعة أيام، كابوس استيقظوا منه فانقضى، لعنة وأبطلت، لطخة ومسحت، بقعة وأزيلت، وحين تساءلوا كيف! لم يحفلوا كثيراً بالإجابات، وأصبحت الثواني ساعات، والساعات أياماً، والأيام شهوراً، والشهور سنوات، وبدا الدهر أعجوبة، وأصبح ما عليه أن يكون من كان يا ما كان.

وعلت الأصوات: مهلاً مهلاً، إلا أن أحداً ما عاد يحفل بالزمان، كما أسلفنا من لحظات، ولا يأبه بتسارع الأحداث، واختلط من ناضل ودفع الأثمان وقدّم التضحيات، بمن كان يمشي الحيط الحيط ويقول يا رب السترة والأمان، فأصبح هؤلاء سكارى وما هم بسكارى، منتشين، لا يريدون لهذا الفرح من منتهى.

وطفت الجثث وشرعّت أبواب السجون والمعتقلات، وخرج من خرج بأقل بكثير ممن اختفى وذُوِّب ومات، وبدت للعيان المقبرة، تراءى الوطن المقبرة لمن حسبوه جنة غنّاء، مكاناً ولا في الأحلام في ظل بشار والحلفاء، كل ما أصابه كان أزمة وقد نالت منه المؤامرات، على غفلة من المخابرات.

ثم أطلّ الحزن الأليم، والتفجع المرير، وطرقت الأمهات الأبواب المشرعات، وبدا الأمل ضئيلاً، واليأس كثيراً، والشقاء مترامياً، ومنهن – ما أقلهن – انقلب حزنهن فرح، وقد رأينا الأولاد يبعثون أحياء بعد أن كانوا أموات، إلا أن الأموات ظلوا أمواتاً، وما أكثرهم وما أكثرهن، وبدا العجز سمة، وبدا الأمل مطلباً بأن تكون سورية على قدر هذه التضحيات الجسام، أن تليق بهذا العدد الهائل من الشهداء.

وهذا يا سادة يا كرام، ظهر الفاتح الجبّار، قائد الألوية القهّار، ابن جلا وطلّاع الثنايا، ما إن وضع العمامة، حتى عرفناه، وهل يخفى القمر! وباشر القائد بالصلاة تقبّل الله منه ومنا صالح الأعمال، وتواصلت الأفراح الملاح، بأن تسلّم المقاليد وترأس المجاميع وطمأن الجميع، استقبل وودع، صحح وعدّل، وقابل من أرسلهم العم سام، عرّاب الجميع، عراب الأب والابن والفاتح الجبّار، وسائر بلاد العرب والمسلمين بإحسان إلى يوم الدين، وكانت باربرا من النبل والشهامة بأنها لم تدلِ بأية معلومات عن الفاتح القهّار، وضحت بعشرة ملايين دولار حلال زلال كانت ستقبضها لو أخذت سيلفي مع قائد الألوية الجبّار، فيه إحداثيات المكان! يا للنبل!

ثم إني استجمعت نفسي أمام هول ما حصل ويحصل وسيحصل، فتراءى لي كم أنا بطيء سلحفاتي أمام تقافز الأحداث وتسارعها الأرنبي، وقلت في سري: لا تتساءل عن ماضي الفاتح الجبّار قاعدة وداعش وهكذا أخبار، قل طيش شباب وكله من أبي القعقاع! وتذكّرت أبي بكر البغدادي وتراءت لي ساعته حين ألقى خطبته العصماء، فتبادر إلى ذهني بيت للوليد بن يزيد ” تَلَعَّبَ بالخلافة هاشميٌّ / بلا وحيٍ أتاه ولا كتاب”، وراحت تتراءى أمامي الفصائل المنضوية تحت لواء أحرار الشام، فقلت في سري “تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى”، ثم استدركت بآية أخرى من الذكر الحكيم “واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألَّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا”، أم أنها تركيا ألّفت بين قلوبكم بنعمة من الله وفضل!

أقسم بأنني سأدع ما تقدّم وأستسلم للقول الشهير “إن غداً لناظره قريب”، ليس وعيداً، بل استبشاراً بفجر جديد، لكن، وأرجو أن تسامحوني، فأنا شكّاك، وبي أفكار وهواجس تتنامى وتضمر، تحتمل الخطأ والصواب: هل عدنا إلى التركي والتتريك والباب العالي وشام شريف؟ هل ندع الأسئلة ونتفرغ للعيش الكريم لا جوع ولا ظلم وانفتاح اقتصادي رحيب، وكل ما حُرم منه الشعب المكافح العنيد بمتناول اليد يسير! لكن هيهات وهيهات والتساؤلات تتقاذفني كما لو أني في سفينة تتناهبها العواصف والأمواج، وليلي نهار ونهاري ليل!

وهكذا يا سادة يا كرام تركت الحبل على غاربه ورحت أرمي بما يتبادر إلى ذهني خبط عشواء، غير مبالٍ بالخطأ والصواب، وما هو تاريخي وغير تاريخي، آني وراسخ، مضطرب ويقيني، فاستسلمت لتداعٍ مستقبلي حر:

  • “ألا أيها الليل ألا انجل بصبح /وما الإصباح منك بأمثل”.
  • ليحاكم المجرمون والقتلة، دعونا نتعرف على من كانوا بيننا بشراً فإذا هم وحوش.
  • أنت تقول يا أيها الفاتح ما شأننا بما حدث منذ 1400 سنة، وجماعتك لا يعرفون سوى ما حدث منذ 1400 سنة!
  • سورية عادت أموية (كمثال على السائد لدى جماعة الفاتح).
  • أَتَانِيَ أمرٌ فيه للناس غُمّةٌ / وفيه بكاءٌ للعيون طويل (معاوية بن أبي سفيان).
  • إن نجحت يا الفاتح الجبّار بنقل البلاد إلى بر الأمان فكفاك به مجداً عظيماً.
  • حوار وطني. هيئة دستورية. دستور. تصويت على الدستور، انتخابات برلمانية ورئاسية، هل في هكذا تطلع وتراتبية أي شبهة خيال أو تطلع إلى يوتوبيا!
  • إن نجحت يا الفاتح الجبّار بهذا الوارد أعلاه فلك المجد، ولا حاجة لك بأن تصبح رئيساً أو إسكافياً أو نجاراً، حسبك أن تكون مؤسس سورية الجديدة!
  • شجاع إذا ما أمكنتني فرصةٌ / وإلَّا تكن لي فرصةٌ فجبان (معاوية بن أبي سفيان).
  • إسرائيل بالمرصاد وقد قضمت ما قضمت من أراض، وصالت وجالت ودمرت لتقول ألا أيها السوريون أنا عدوكم الأبدي.
  • التركي والتتريك من دون أن نعرف ما يريده السلطان!
  • هل سيترك للسوريين أن يقرروا مصيرهم بأنفسهم؟
  • هذه سورية في النهاية… الجغرافيا والتاريخ والديموغرافيا!
  • “ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً/ويأتيك بالأخبار من لم تزود”.

وآخر دعواهم ألا حفظ الله سورية أولاً وأخيراً ولا نامت أعين الجبناء، لا مقسمّين ولا فدراليين، بل سورية حرة كاملة، مواطنون ومواطنات، لا طوائف ولا مكوّنات…آمين!

*****

خاص بأوكسجين


كاتب من سورية. مؤسس مجلة أوكسجين ومحترف أوكسجين للنشر. صدرت له العديد من الروايات: "سيرة بطل الأبطال بحيرة الانكشاري ومآثر أسياده العظام (1984 هـ)" – (2019)، و"كلاب المناطق المحررة" (2017)، و"ديناميت" (ط1: 2012. ط2: 2018)، و" برّ دبي" (ط1: 2008. ط2: 2018). وله في القصة القصيرة: "سورية يا حبيبتي" (2021)، و"الوقائع العجيبة لصاحب الاسم المنقوص" (2016). كما صدر له شعراً: "ملائكة الطرقات السريعة" (2005)، و"قبل الحبر بقليل" (2000). من ترجماته: "محترقاً في الماء غارقاً في اللهب-مختارات من قصائد تشارلز بوكوفسكي" (2016)، و"طرق الرؤية" لجون برجر (2018)، و"اليانصيب وقصص أخرى" لشيرلي جاكسون (2022). وله أيضاً كتاب مختارات من التراث العربي بعنوان "الإسلام والضحك- نواضر الخاطر في كل مستطرف باهر" (2018)،  و"لا تقرأ هذا الكتاب إن لم ترَ من السماء إلَّا زرقتها" (2023) الصادر عن محترف أوكسجين للنشر.