في مدار الأسئلة المؤجلة، من كان يجرؤ على أن يترك لمخيلته تصور أن ينقشع غبار سنوات ثقيلة من الرعب في ستة أيام؟ جاءت ثورة السوريين كنص روائي مؤجل، حارة، متدفقة، سهلة الإنجاب، مطبوخة بأناة ومعتنى بها. جاءت كما النصوص الجيدة: “برقية، لامعة”، ومنذرة لا بالأمطار وحدها، بل بالعواصف أيضاً. كانت متخمة وحبلى بالأسئلة، بالكثير من الأسئلة، خاصة عندما سقط النظام بحتميةٍ جعلتنا مكسوري الأرواح، مقتولين بفجائعية السؤال، ببديهيته: ما الذي أبقاه فوق قلوبنا كل تلك السنوات؟
فهذا ما تقدمه “البديهية” لنا: نتائج منطقية بوضوح الأبيض وتناقضه أمام الأسود. بديهية تنكرت سنواتٍ طوال بزعيق المصفقين لعروض الخواء، والأداء البهلواني لبائعي الضمائر ومزوري الذاكرة ومدققي النصوص الحياتية، ومسؤولي الرقابة عن مخيلة البشر وأحلامهم. هؤلاء من شوهوا وعدّلوا واقتطعوا من حكايتنا الأكثر حضوراً في الوجدان، حكايتنا السورية.
وها أنا اليوم بعيدة كما دائماً، مهجورة كلغة حِمْيرية، ومستثناة كاسم ممنوع من الصرف. بعيدة في الجغرافيا ومرمية في فضاء مخيف وديستوبي هو فضاء الشك، أسكنه كابنة شرعية له، ابنة الشك أنا، تربيت عليه ولقنت ألا فضيلة أعلى منه. ومن قلب الشك، من قلب الأسئلة الموجعة، المريبة، والمتعبة كثيراً، لا أستطيع الحديث عن سورية بهدوء المحللين السياسيين، ولا بمنطق البراغماتيين الأذكياء، مرقصي الطابات الكثيرة في كل فضاء متاح. لا أستطيع تحمل بهلوانيات اللغة وعضلات المتحدثين الماهرين بشعبويتهم وفحولتهم المستعارة، ذكوراً وإناثاً. سأبقى أحكي كما تعودت أن أحكي، بصدق عارٍ لدرجة الفضيحة، بأداء خفيض، بحب وبمراهقة ثورية، وبسذاجة.
سأحكي عن الحلم الذي لطالما كان طوق النجاة ومعيناً لها، وقد أصبح اليوم شبحاً يحوم في سماء مشبعة بالريبة وحتماً بالخوف. لم يكن حلمنا يوماً في هذه المنطقة من العالم بسيطاً أو حتى بريئاً، فهو يشبه وجوهنا التي لا تحتاج لمرآة مكسورة لتجزع بصورتها، فمرآتنا النرجسية لا تعكس سوى وجوه شاحبة وأسئلة جريحة: كيف نصون الحرية ونحن نحمل في ذاكرتنا كل هذا العبء؟ وكيف نرسم مستقبلاً جديداً دون أن يسكن في ملامحه ظل الطغيان القديم، بتنويعاته وأطيافه؟
سلطة جديدة أم طغيان آخر؟
الحديث عن الإسلاميين كسلطة حاكمة، لا كمكون سياسي من ضمن مجموعة، قد يبدو مبكراً، لكنه كالطيف الثقيل يجثم على الحلم. السوريون، الذين عاشوا عقوداً تحت ظل الاستبداد، يرون وأنا معهم في أي سلطة محتملة شبحاً آخر. ليست المشكلة في الدين الإسلامي — نصرخ، ونصرخ، ونصرخ علّ أحداً يصدقنا — بل في ذاكرة القهر، في تلك الحكايات التي تتكرر فيها السيطرة والبطش، بغض النظر عن اسمها أو شعاراتها. منذ خرجت من سورية وأنا أعلن أني أريد أن يسقط نظام الأسد لكل الأسباب، إلا للسبب الطائفي. والآن أصرخ أيضاً: مشروع الحلم/الأمل في سورية لن يكون ضد الإسلاميين أو أي طغيان ديني أو حتى عقائدي فقط. هو انحياز للمدنية وفصل كل شيء عن أي شيء لا يهم. هو أيضاً درس مواطنة تعلمناه على مهل، عبر آلام الآلاف، وخسارة أجسادهم في المعتقلات، وأحلامهم المنحورة على بوابات المطارات، في الخيم، وفي البلم الغارقة بأجساد الهاربين التي حرمت علينا أكل السمك؛ فمن يأكل لحم أخيه ميتاً؟
ديستوبيا المخيلة السورية
سورية اليوم ليست فقط أرضاً ممزقة بالحروب تبحث عن شفاء تام وخلقة تامة، بل فضاء مثقل بالكوابيس. يغزو حواسنا قبل أنفاسنا كأبخرة القنابل ملونة الغاز. هل ستصبح الحرية حلماً نخشاه، والمستقبل أحجية في يد متنبئ تعس؟ هل ستقهرنا المخيلة ويخيبنا الأمل؟ والإجابة دوماً تأتي من القلب وتتحدث للقلب: ففي الزمن السوري الذي لا يبدو أن له نهاية، تتشابك الحروب مع الذاكرة والدماء، تصبح المخيلة ضرورة، والترجي والتوق للمستقبل، ممارسة نبيلة، لا طريق غيرهما لابتكار سبل ملهمة لعيش وممارسة المواطنة بتشعب اهتماماتها وأسئلتها. إن هذا المران، ذاك التدرّب على ممارسة المواطنة، هو الجسر الذي سيربط بين الألم والشفاء. إنه النسخة الأقوى من المخيلة، من الذاكرة التي ترفض أن تتحول إلى جامع إحداثيات تحريضي، بل صانع حكايا، حيث أدوار البطولة هي للصوت الذي يهمس لنا أن هناك أفقاً آخر، وأن الحرية ليست مجرد فكرة، بل تجربة نمارسها مرة بعد مرة حتى الإتقان.
ها هي البديهيات تحضر من جديد…
فبناء مؤسسات الدولة أمر بديهي لعودة الاستقرار. تأمين الحريات في الفضاء العام، وضمان استقلال القضاء، هو ما سيخلق بيئة مشجعة للنمو. مدنية الدولة، فصل كل شيء عن كل شيء ما دام مبقياً على السلم الأهلي وداعماً له. فإن اجتمعت كل تناقضاتنا وتشظت، وتهتكت، وانفجرت في وجوهنا، فإنها لا محالة ستتوافق مجمعة على أن “الدين لله، والوطن للجميع”. كله بديهي، والبديهي أيضاً يصرخ أن الاقتصاد هو المفتاح لحياة السوريين، والاقتصاد القوي لا يتحقق إلا في بيئة آمنة تحترم القانون، بعكس ما يُروج له. علينا بالعودة لاحترام الصناعيين، والتجار المستقلين، محاربين غرامنا “الاشتراكي” الذي لا يتوقف عن سب التجار الجشعين الذين لم يسلموا من محاصصة الحكومة لهم وإغراقهم بالرشاوى وخوّات البلطجة.
ومن قلب التناقضات…
متخبطة كما حال كل سوري، متنوعة، ملونة، ومنعدمة اليقين كأني حالات النهار في يوم مونتريالي. ثم، وبسبب وعيي وإيماني ومنطقي الآتي من التحليل، من الشك الذي لم يتركني إلا متنعمة بفضائله، أقول وأعيد لأولئك الذين يخشون من التطرف الديني أو الإسلامي العقائدي: إن البيئة التي تنمو فيها هذه الأفكار هي بيئة التهميش والفقر. أعيدوا لنا حياتنا الطبيعية، الإنسانية ودعونا. أعيدوا لنا المخيلة وفضاءات الاحتمال، اتركوا لنا مساحات للشك، وللمحاكمة، وللسؤال.
هذا الوعي، وهذه المخيلة بضلالها وعظمتها، هما ما أبقى السوريين على قيد الانتظار لأكثر من ستين عاماً، يدعون فيه على الظالم بحرارة جحيمية بلا لهب يُرى. دعاء بجمرات على أشدها من كثرة التوهج. خائفون نحن حقاً، خائفون من الدعسة الناقصة من الأخ والشقيق. فما يُخيف الآن ليس الصراع على المناصب، ولا فجور المتراجعين عن الغيّ، بسطحية وتبجح، وفجور من لا يملك لا ذاكرة ولا ضمير. المخيف والمقلق حقاً هو الصراع على الحكاية، على الذاكرة التي تمد جذورها بقتلاها، بجوعها، بمنافيها، وتغترف من عمق المأساة علّها تجيبك بحياد على أسئلتك. فكما يتذكر السوريون المذابح الأسدية في حماة، لا يمكنهم نسيان ما فعله حزب الإخوان المسلمين في سورية. المقتتلون الآن على الحكاية هم ذاتهم من راقبوا مرهقين، منفيين، حزينين، وخجلين من كل ما ارتكبته الرايات السود في أرض سورية نفسها وحول العالم.
الواقع السوري بين المخيلة وديستوبيا الحلم
حلم يطرق مرمى نيران مزروع بالذكريات، بالطائفية التي لا تزال تنز من ندوبنا التي لم تجر لها خياطة لائقة، ولا لُضمت قطبها إلا بخيوط فولاذية من الكراهية المتراكمة بين الطوائف حد الاختناق، حد الخجل. هذا الفساد الراشح من العيون الجشعة، هو ذاته من هشّم الأحلام في طفولتها، وترك الانقسامات في الأرواح مشرعة على الفراغ. أمام كل هذا، كيف لسوري أن يثق بحلم جديد، بسلطة أخرى، أو حتى بنفسه؟
لكن الحالم العنيد، شديد البلاهة والإيمان، يعود ليجيب “من الأول” كما في كل مروية لشعب مقهور، “من الأول” كما روى الياس خوري في ملحمة شعب عند خروجه من “باب الشمس” الحالم يجيب وكما دائماً، ومنذ وجدنا فوق الصلبان موتى ومقهورين، منذ زرعنا في أراضٍ نافية، بُصقنا كما مرار الفم، منذ حُمّلنا على رماح المنتصر الأهوج جثثاً وقلوباً. منذ قتلنا الانتظار وانكسار القلب في المعتقلات. علمتنا شدة الخوف أن في قلب كل طغيان تكمن هشاشة ما، غير مرئية، ولا يمكن تفسيرها. هشاشة كامنة في كتل الجليد، في جبل صوّان. ما أبقى على الحالم فينا: وعي بدئي بتلك الهشاشة، بحتمية تهشمها، بحتمية تفتت ملحها كقلعة منتصر مغتر على شواطئ المحيطات.
*****
خاص بأوكسجين