لم يلتق ابني جول الذي ولد في مونتريال أياً من أفراد العائلة حتى صار في السادسة من عمره، عندما توقفنا في باريس لعدة ساعات، والتقينا أخي آرام اللاجئ في فرنسا. لقد كنا لاجئين في كندا، وعدنا إلى دولة عربية إلا أننا لم نعد إلى سورية.
اليوم، وبعد 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، أصبحت زيارة سورية ممكنة. بهذا التغير صار بمقدورنا أن نتحدث بوضوح أكبر إلى ابنتي المراهقة جنى، وأن نفسر لها الخراب السوري بلغة يمكنها فهمها دون غموض أو مواربة. الآن نخطط لهذه الزيارة في الربيع المقبل.
وعلى الرغم من أن الجدين قد زارونا، إلا أن اللقاء لم يكن على قدر التوقعات، فقد ظل بينهم وبين الأطفال حاجز غير مفهوم. ربما حيادية المكان هي ما تفسر هذا، ومع ذلك أرجو أن ينكسر هذا الحاجز عند لقاء الأهل في محيطهم الحيوي سورية.
أطفالي ليسوا الوحيدين الذين لم يلتقوا عائلتهم. أطفال كثر يعانون المصير نفسه، وربما لن يتاح لهم هذا اللقاء أبداً، فبعض أقاربهم فارق الحياة، وآخرون مغيبون، في حين تعيش عائلاتهم على أمل لقاء غير مضمون.
وفيما أخبرني أقارب وأصدقاء عن زياراتهم إلى سورية خلال الأعوام الماضية، وسعادتهم بزيارة وطنهم، بقيتُ عاجزاً عن مشاركتهم هذه التجربة، ورغم مرور عامين ونصف على انتقالنا من كندا إلى الإمارات، إلا أن شعور العجز هذا استمر.
اختفى صديقي فادي مراد مع بدايات الثورة، ولم يُعرف مصيره إلا بعد وساطات عالية المستوى. تبين لاحقاً أنه اعتُقل على حاجز للنظام. بكيتُه مراراً، ولم أزر عائلته. بدلاً من ذلك، اخترت أن أتذكره كلما أكلت البروستد، واحدة من وجباته المفضلة، أو عندما أتناول البرتقال، وأسمع صوت فادي في ذاكرتي يقول: “شطّف تُمّك ببُرتقاني.”
أما صديقي رامي سليمان، مؤسس اللجنة الطلابية في دمشق، فقد ابتلعه الثقب الأسود. ولا زلت أعيش على أمل لقائه حياً. فيما قريبي نبيه وردة، الشاب المتحمس الذي شارك في الثورة بكل جوارحه، لا يزال مغيباً، والقائمة تطول.
لقد زرنا سورية لخمسة أيام بعد وفاة جدة زوجتي. لكن في تلك الزيارة لم أرَ سوى العتمة، وصديقي نضال بشارة، الذي لم أجرؤ على زيارته في حي السبيل مساءً.
بعد تلك الزيارة استسلمت لقرار اللجوء. ورغم سفري إلى ألمانيا، وفرنسا، وإيرلندا، وهولندا، ورفضي البقاء في أي منها، إلا أن الصدفة حملتني إلى المقاطعة الفرنسية في كندا. هناك أصبحت مواطناً كندياً بعد خمس سنوات. لكن مع عودتي إلى الإمارات للعمل، شعرت وكأنني عدت سورية، ولو في شعوري، باستثناء وثيقة السفر التي تقول عكس ذلك.
لا أنكر أنني كالكثير من السوريين، لم تتح لي الفرصة لزيارة العديد من مدن سورية أو حتى قراها. لكن الثورة فعلت ذلك لي. لأكثر من 13 عاماً، تابعت الأخبار من كل شبر على التراب السوري.
ومنذ سقوط الأسد يوم 8 كانون الأول/ديسمبر، تغير الكثير. ورغم أنها مجرد أيام، إلا أن هذه الفترة كانت مكثفة كحياة كاملة سقطت بغتة، وكأنها طبقة من طبقات الأحلام في فيلم Inception.
أحلم بأن أحضر القهوة كما اعتادت جدتي وأمي، بركوة وفناجين مزخرفة، مع صينية محملة بالثرثرة، كما يليق بصبحية سورية.
أريد أن أصطحب جنى وجول إلى سورية لرسم خريطة كخريطة أكزوبري. ولا بأس إن ضحكنا مع المختلفين على أصل حلاوة الجبن؛ هل هي حمصية أم حموية؟ أياً يكن، المهم أن يجد السوريون أنفسهم أخيراً تحت سقف القانون، تلك الكلمة الحلم في سورية الجديدة التي أتمنى أن تحترم مكونات الفسيفساء السورية، لا الطوائف. المتراس الذي يتخندق كثيرون خلفه في حالات الذعر.
لكني أريد أن أفرط بالتفاؤل وأن يأتي اليوم الذي يتصفح فيه أولادي أرشيف هذه المقالات ويسخرون منها قائلين: “نحن سوريون بابا، ما هذا الهراء الذي كنتم تتحدثون عنه؟”.
*****
خاص بأوكسجين