لابد أن الكوميديا هي الأداة الأكثر نجاعة في مجابهة واقع متجهم، وليأتي الضحك أو التندر حاملاً للمفارقة على الدوام بما يحوله إطاراً نقدياً لما يرويه ويسرده الفيلم، ولعل هذا يمثل السمة الأبرز للفيلم السعودي “بركة يقابل بركة” إخراج محمود صباغ والذي حظي وما زال بحفاوة دولية كبيرة، وقد كان عرضه العالمي الأول في برنامج “الفوروم” في الدورة الأخيرة من “برلين السينمائي” كما حملته شاشة مهرجان تورنتو السينمائي وله أن يكون حاضراً في أكثر من مهرجان دولي حول العالم.
بعيداً عن قصة الفيلم، فإن الفيلم بحد ذاته له قصته الموازية أيضاً، بمعنى أننا نتحدث هنا عن فيلم خارج من بلد لا وجود لصالات السينما في ربوعه، والمحظورات كثيرة وشائكة بحيث تشكّل صناعة فيلم روائي طويل نوعاً من اقتحام حقل ألغام، ولعل ما استوقفني أيضاً تناقل وسائل الإعلام العربية نبأ اختيار الفيلم لتمثيل المملكة في الأوسكار، فكما هو معروف فإنه يحق لكل دولة تقديم فيلم للتنافس على أوسكار أفضل فيلم غير ناطق بالإنكليزية لتصل منها خمسة أفلام إلى القائمة النهائية يفوز منها فيلم واحد، وفيلم “بركة يقابل بركة” هو الإنتاج السعودي الوحيد هذا العام، وآخر فيلم روائي سعودي طويل شاهدناه هو فيلم هيفاء المنصور “وجدة” إنتاج 2012! على كلٍّ يبدو فيلم “بركة يقابل بركة” غرائبياً بالنسبة للمتلقي حول العالم الذي لا يعرف عن السعودية شيئاً سوى أنها أرض النفط والحدود والأحكام الإسلامية، وبالتالي فإنه فيلم يروي عطشاً ما ويستجيب لفضول، كما يجري عادة التعامل مع المنتج الثقافي العربي دولياَ على مبدأ الـ (Exotic) “الغرائبي” بما له أن يلبي احتياجات تسليط الضوء على هذه البقعة من هذا العالم المحتكمة على العجب على مستويات عدة.
يتميز الفيلم أولاً بالسيناريو الذي كتبه صباغ والذي يتضمن نقاط قوة تتمثل أولاً أنه يروي قصة حب – تجري أحداثها في مدينة جدة – بين موظف البلدية بركة (هشام فقيه) ونجمة الانستغرام وعارضة الأزياء بيبي (فاطمة البنوي)، وتفريعات هذا الخط الرئيس المتمثل بمشاركة بركة في التمثيل في مسرحية “هاملت” لكن ليؤدي دور أوفيليا وما يحمله ذلك من مفارقة، كما أن كل من بركة وبيبي يتيمان كما سنعرف في سياق الفيلم، وبيبي المتبناة من عائلة فاحشة الثراء مصرة على أن تعيش قصة حب مع بركة لا خطوبة أو زواج وهي متحررة منفتحة وعصرية، على العكس من بركة الذي من المفترض أنه من بيئة متوسطة لكنها منغلقة إلى حد ما طالما أنه يعيش في حي متواضع، لكنه محب للفنون والحياة ومعبره إلى ذلك جاره المغني الغارق بالإدمان، ويمكن أن يكون ذلك التغير الدرامي في شخصيته جراء حبه لبيبي وهو ينزع عن مرآة سيارته الآيات المعلقة بها، أو غير ذلك من تبدل في أزيائه وقد كان بداية لا يفارق الغترة والعقال.
ما ورد آنفاً سيجري إثقاله بالكثير، والقصد من إيرادي أن قصة أخرى توازي قصة الفيلم يتمثل بأن هناك الكثير من المقولات التي يريد صانع الفيلم قولها ربما لأنه أمام فرصة لا تعوّض وهو يصنع فيلماً في السعودية، وهكذا فإنه لن يكتفي بسياق حكايته المولدة لمساحة نقدية ساخرة هامة ودامغة مثلما هو الحال حين يتخيل بركة وبيبي سيناريوهات لقائهما في مكان عام، بل سيدخل الوثائقي وبركة يستعيد السعودية قبل وما آلت إليه الأمور الآن، مع كل ما يحمله ذلك من جرأة وهو يرينا مثلاً أن النجم في هذه الأيام هو محمد العريفي بدلاً عن المغني وغير ذلك من استخدام الوثائقي لمرتين في سياق الفيلم وهو يزور ماضي السعودية المخالف تماماً في انفتاحه وتحرره عما هو الآن، ولعل عاملاً آخر أثقل السرد بالفيلم ألا وهو استسلام صباغ للمقولات كما لو أنه يرد على الصور النمطية للسعودي أي ما له أن يكون إثقال الفيلم بما لا يخدم السرد والحكاية والحبكة، وليؤدي ذلك إلى التفريط بما له أن يعطي الشخصيات والخيوط الدرامية ما تستحقه من سرد وافٍ.
فيلم “بركة يقابل بركة” محاولة ناجحة لتقديم فيلم يقول الكثير لكنه يعاني من هنّات هنا وهناك يمكن التغاضي عنها إن كنا مشغولين بما يريد تسجيله وقوله، وخفة دمه، بعيداً مثلا عن مونتاج الفيلم ومشاكله الكثيرة واختزال المشاهد وتباين طولها وبالتالي اللقطات ضمن المشهد الواحد بما أفقد الفيلم إيقاعه، وبدت مشاهد عديدة مبتورة.