ما إن يتدلى شعرها من النافذة كل صباح، حتى يتسلقه جميع صبية الحي. شعرها أسود وكثيف وحر، تتركه ليلاً في الغابة البعيدة، فنجده صباحاً مليئا بالعصافير. هي المرأة الوحيدة في الشارع المتهالك الضيق التي تشبه النساء في مخيلاتنا، حتى أني سمعت أحد أصدقائي يقول “إنها خرجت من حلم أحد الرجال، هكذا خُلقت!”
راقبتها لأعوام من خلف نافذتي المطلة على شباكها، راقبتها تفتح الشباك وتمد عنقها نحو السماء غير عابئة بمن يسترق النظر إلى شعرها المتطاير حول وجهها الجميل، تصل خصلات منه نحو الشبابيك المتربة لتنظفها، ويصفع الرجال المبحلقين، ولكن عندما تصلني خصلاتها تربّت على رأسي بحنان.
بلغتُ، وتمثّلت شهوتي على يديها، وأعلنت نفسي رجلاً على تفاصيل جسدها التي أشبعت عيناي المتسللتين بها. لم يصادف يوما أن سمعت صوتها، لكنني حاورتها في خيالي، وخضت معها مئات الأحاديث والمناقشات، ولتنتهي جميعاً بمصارحتي لها بهيامي، أو بقبلة لا تردعها نظرات أحد، هي الغريبة، الأشبه بحورية لا تشبه أحداً أو أي شيء في حينا.
كنت أراها في الشباك ذاته بنصف جسد، ممتلئ بما يكفي لجعلي أحلم في أن أكون نصفه الآخر، تراقب العرسان المغفلين يمشون أسفل الشباك، والعصافير التي تسكن شعرها ، تهمس لها، وخطوط النور الصفراء تتسرب من الغيمة الرمادية التي تحلق فوق شارعنا الضيق، لتقع على شباكها وتنيره، تضحك من همسات العصافير، ترمق الرجال المتوسلين لعطفها بنظرة شاردة، ثم تدلف إلى غرفتها فيعود الشارع لرماديته السابقة، ويرحل العريس قفاه يقمر عيش، وقد أدرك الجواب.
لم أذق في حياتي طعم الغيرة كما ذقتها حين أخبرتني أمي أن الملكة المتوجة في الغرفة المقابلة رضخت للزواج. قلت في سري “هذا محال”، فأنا لم أتخيلها يوماً زوجةً، لا لي ولا لغيري، فهي أميرة منفية في غابة مسحورة، وهكذا فإنها تغيرت في نظري كثيراً، أصبحت أراقبها بعين مختلفة تماماً، ربما هذا ما يراود صاحب المزاد تجاه المقتنيات الفاتنة التي يعلم أنها ستنتهي في أيدي الآخرين: يزهدها.
استغرقت مرحلة اختيار العريس وقتا ليس بقصير، كان بالنسبة لي عمراً من الترقب، وشباكها الذي كنت أتفاخر أمام أصدقائي أنني اذا مددت يدي على طولها وتمددت بكامل جسدي خارج نافذتي سألمسه، بات ينأى عني ويبتعد، إلى أن تضاءلت خلفه، وأصبحت في النهاية نقطة صغيرة لامعة تنير غرفة تسودها العتمة، وصارت مراقبتها عناء، فرحت أنساها تدريجيا. حين تزوجت، حلّت العتمة تماماً في بيت أهلها، وتفوقت تعاستي على فضولي وناصبت من سرقها مني العداء.
تساءلت كثيراً: هل نسيتها إلى الحد الذي يجعلني إذا رأيتها لا أتعرف عليها؟ لا بل أكثر من ذلك، إذ صرت أراها شديدة الشبه بأمي، امرأة ملتحفة بالسواد، بوجه مرهق وتعيس لأسباب مجهولة، تنقّي باذنجان أسود على مرأى من بائعة الخضار الست سمية، التي لطالما رأيتها ساحرة شريرة تبيع الباذنجان المسموم. إنها نفسها بائعة الخضار التي لا تغادر ناصية الشارع، بفرشتها القديمة، حيث تنتهي عند قدميها الإثارة، وتبدو جميع نساء الشارع قلقات ومخذولات. حينها تباردت إلى ذهني تلك الفكرة المريبة عن منظمة بيع النساء، بقيادة بائعة الخضار في الشارع التي تسكن نقطة تقاطعنا مع العالم الخارجي، حيث تتم صفقات شريرة لتزويج بناتنا الحالمات وتصديرهن إلى شوارع مجاورة أضيق ولكن بشرط أن يشترين الخضار من الست سمية.
*****
خاص بأوكسجين