يدلف بنا محمود الرحبي في روايته “طبول الوادي” (محترف أوكسجين للنشر 2023) إلى تلك الحقبة الزمنية القريبة البعيدة، أواخر السبعينات وبداية الثمانينات في إحدى قرى عُمان الداخل أو “قرى الحجر”، وهي مثال يجري على معظم البيئات المشابهة في عُمان، فتتطابق العادات والتقاليد والقصص والحكايا والمرويات والذكريات والموروثات، كما لو أننا نقرأ عن بيئة أية قرية أخرى في تلك الفترة من الزمن.
يأخذنا الرحبي إلى عالم روايته انطلاقاً من السؤال المخيف دوماً، سؤال المجهول، سؤال المصير، بعد هروب بطله سالم، وانقطاع حبله السري الثاني بعد الولادة، وانقذافه القسري (هرباً من من قسوة الأب واتخاذ حياته منحى خطيراً لحظة غضبٍ عارم) من واديه وقريته الوادعة إلى قلب مسقط وإحدى بلداتها المزدحمة، ليجد نفسه في مواجهة قدر جديد بصعوباته وتحدياته، حيث يقول سالم في مستهل حياته الجديدة: “أما الآن فأنا متحفز لتسليم أمر حياتي القادمة للمصادفات واللامبالاة، كل هذا جعلني لا أشغل بالي كثيراً بأمر الوصول، فالأماكن سيان طالما أني ابتعدت عن الرستاق”.
ومن “وادي عدي” تبدأ رحلة مجهولة، رحلة اغتراب جسدي وروحي، رحلة أسئلة تبدأ صغيرة ومباغتة ثم تتحول إلى أسئلة وجودية ومصيرية، شأنها شأن كل رحلة في نفس كل إنسان باختلاف ظروفه ومصيره وتنوع موارده ومصادره.
بعد المدخل المعنون بـ “صمت وكلام”، يعيدنا الرحبي بسرده البديع إلى مواطن الطفولة وذكريات القرية القريبة، على امتداد الفصول التي تتوالى على شكل لوحات بديعة السرد، شديدة الاتصال بالمكان والإنسان العمانييَن، حادة الانتباه الى التفاصيل يرسمها الرحبي بريشة فنان، من روائحَ ومشاعر وأغان وأجواء الصهد الحارقة وقسوة الأبوة التي تخفي خلفها حناناً دفيناً ورغبة غير معبّر عنها بالكلمات، لا ينجح باكتشافها سالم إلا بعد زمن طويل. أقول يعيدنا محمود إلى زمن طفولة سالم وانقذاف بذرة التمرد البشري الطبيعي ضد كل ما هو راكد ومقيِّد للحرية، ذكريات ومغامرات صغيرة مع الرفاق، كسر القيود الأبوية الصارمة، خاصة إذا ما انصبغت بصبغة المشيخة والوجاهة، الخط الأحمر في ذلك الزمن. ويبرع الرحبي في حياكة المغامرات الصغيرة بتفاصيلها المتناهية، المغامرات التي تكسر صمت المكان الأبدي، وذكريات الدخان والغناء، الملاجئ السرية ولعب الورق، مع تكبد العناء المضني، والمهارة الحاذقة في إخفاء أي أثر لـ “الجرائم” الصغيرة، والإيغال في الاختباء عن عيون القرية، إذ أن أي خلل في الخطة يؤدي بالضرورة إلى عقوبات قاسية تفوق “الجُرم” المرتكب بمرات ومرات، فقد كان همّ سالم الأوحد هو التحرر – ولو مؤقتاً – من ربقة أبيه وأوامره كما نجده يقول وقد اشتد به التعب من صحبة والده الى السوق :” كل مسافة أخرى من دون والدي ستكون قصيرة ممتعة حتى ولو كانت غير ذلك” .
في فصول الرواية أو بالأحرى لوحاتها المتتالية، وخصوصاً في المرحلة التي تلت هروب سالم من قريته، ومحاولاته للنجاة وإيجاد سبيل للعيش في “وادي عدي”، يتحول السرد إلى سرد هادر كهدير مكيفات الهواء، وليكتشف سالم هذه الأخيرة للمرة الأولى، كما لو أنه في ذلك يخطو أولى خطواته في درب تحولاته وحريته، وليرافق ذلك رصد متقن للتنوع الثقافي والاجتماعي الذي وجد سالم نفسه فيه: حركة البشر والكائنات، اجتماعها وتنوعها، قصص من هنا وهناك وأغان وترنيمات، بعضها بالفصحى والآخر بالعامية المحكية، بل وحتى باللغات البلوشية والسواحيلية، بالتوازي مع مفاصل وتفاصيل تلك الحقبة.
وهكذا فإننا نجد أنفسنا حيال لوحة متناغمة لمجتمع “وادي عدي” غير المتجانس، تضع سالم في محيط هو مزيج من شتى أصقاع عُمان، وعليه فإنه يخرج من وداعة قريته وسكونها والتقارب الشديد بين أهلها، إلى التنوع واللامبالاة وإيقاع الحياة السريع والمتسارع، فينغمس به ويتحداه، وهو كلما طوحّت به الذكريات عن حنان أمه وتفاصيل قريته، ينتشله مذاق الحرية الطارئ، ويعيده بحماس إلى خوض المغامرة الجديدة وتقبل المصير ونسيان ما عداهما.
تضيء “طبول الوادي” على حادثة نسيها التاريخ، حادثة مفصلية قلّ أن تُذكر أو يتناولها أحد، نظراً لتأثيرها البالغ على الوجود العماني في زنجبار ألا وهي المذبحة والإبادة التي وقعت في عام 1964 في تنزانيا وضحاياها بالألوف المؤلفة، ونجاة من استطاع الهرب والنزوح عائداً إلى عمان. وضعتها الرواية ضمن سياق مصير شخصية زهران، التي سيتنامى حضورها، وستتضح خصوصيتها في الجزء الأخير من الرواية. وفي هذا ما يقودني إلى شخصيات ثانوية استكملت عوالم الرواية، مثلما هو الحال مع أقران سالم وشركائه في مغامرات القرية، والواشي الذي كشف أمر سالم، والخال عيسى مجنون الحب الهائم ومصدر السجائر لسالم، وبائع الزلابيا الهندي ومن ثم شريك سالم، وصولاً إلى صالح ابن خال سالم، والعسكري الهادئ الذي يدخله الى عالمه “المسقطي” وغيرها.
وفي هذا السياق فإن زهران التاجر الناجي من مذبحة زنجبار والمتهم بالتحايل في “وادي عدي”، ليست شخصية ثانوية أو مساعدة للإضاءة على سالم، فهي ما إن تظهر حتى تصبح محورية إلى جانب شخصية سالم متذكرا زنجبار وحدائقها الغناء في “وادي السحتن” مندوس عمان، فما يفقده زهران يهرب منه سالم والعكس صحيح! ليبقى السؤال مفتوحا في نهاية الرواية، وتحديداً بعد وفاة الشيخ محسن، ما إذا كان المُعَزّي الطارئ زهران (والذي سيصبح بقدرة قادر معالجاً وطبيباً وذا كرامات وكرم) سيصبح شيخ القرية ذات يوم، ويكمل سالم بدوره حياته المنذورة للحرية، خارج حدود القرية مخلفا وراءه إرث المشيخة، وكأنما الطلقة من بندقية أبيه التي انطلقت قبل سنوات كانت شارة البداية لماراثون لا نهائي من الهرب والبحث عن هواء الحرية الطلق.