تتطلب مقاربة رواية “الفهد” للإيطالي جوزييه تومازي دي لامبيدوزا (1896 – 1957) التأسيس على سرد موازٍ للرواية، يتتبع ملابسات نشرها وحياة كاتبها الذي لم يخض غمار التأليف الروائي إلا حين بدأت الحياة تتسرب من بين أصابعه، وانتصر عليه الزمن “ضريح الآمال والرغبات كلها” على رأي وليم فوكنر، والذي ما هزمه أحد ، وما ترك لتومازي أن يرى روايته منشورة وهو على قيد الحياة، فالموت كما يقول بيكيت “لم يطلب أن نحجز له يوماً لا نكون فيه مشغولين”.
كتب جوزيبيه تومازي أو أمير لامبيدوزا (جزيرة في البحر المتوسط على مسافة 105 كيلومترات عن ساحل مارينا دي بالما الصقلي و11 كيلومتراً عن الشواطئ التونسية) روايته الوحيدة بين عامي 1955 – 1956، وصدرت بالعربية عام 1972 ونقلها عن الإيطالية الكاتب والمترجم الفلسطيني عيسى الناعوري (1918 – 1985)، وها هي تصدر مجدداً في نسخة مزيدة ومنقحة عن منشورات المتوسط في ميلانو (ايطاليا) بالاعتماد على أكمل نسخة ايطالية للرواية صدرت عام 2012 وهي الطبعة الثامنة والتسعين منها، ما استدعى اضافة ملاحق تتضمن فصول اكتشف وألحقت بها.
أنجز تومازي روايته في بضعة شهور فصلاً تلو الآخر، وسرعان ما بادرته أوائل أعراض المرض، فغيبه الموت بعد عدة أسابيع، وتقول زوجته “باح لي منذ 25 عاماً بنيته كتابة رواية تاريخية، تدور في صقلية إبان رسو غاريبالدي في مارسالا، مركزة على شخصية والد جده من أبيه، جوليو دي لامبيدوزا، وتضيف “كان يفكّر باستمرار، ولكنه لم يقرر الشروع في الكتابة قط. وفي النهاية، ما إن كتب السطور الأولى، حتى انساب العمل متدفقاً”.
تروي زوجة لامبيدوزا ما سبق للكاتب الإيطالي جورجو باسّاني صاحب الفضل في نشر “الفهد” بعد أن رفضتها درا نشر بارزتان في ايطاليا، هو الذي التقى لامبيدوزا لمرة واحدة في صيف عام 1954 أثناء مؤتمر أدبي، وحين وصله مخطوط روايته كانت لا تحمل اسمه، وقد أدرك من سطر الرواية الافتتاحي “الآن، وفي ساعة موتنا، آمين” بأنه حيال عمل عظيم، وما إيراد هذه العبارة الصادمة إلا للقول أيضاً يا لها من بداية، ولتمضي الرواية في تتبع حياة فابريتسيو (أمير سالينا) الارستقراطي المستنير وهو في منعطف تاريخي، مع نزول غاريبالدي ورفاقه في مارسالا عام 1860 لنصرة ثورة الصقليين ضد روما، إلا أن الرواية ورغم البنية التاريخية المتأسسة عليها ليست إلا سيرة أمير سالينيا، وتداعي كل شيء. إنها حياته وشبح الموت مخيم عليه، كما هو كاتبها إلا أن الأمير كان يستشعره قبل قدومه بعشر سنوات ” هذا الاحساس كان يعرفه دائماً. منذ عشر سنوات وهو يحس بأن السائل الحيوي، أو الحياة بمعنى أعمّ، أو لعلها أيضاً إرادة الاستمرار في البقاء، يتسلل منه ببطء، ولكن، باستمرار، كحبيبات الرمل التي تتجمع، ثم تتفرق واحدة واحدة دون إسراع ودون توقف أمام فوهة الساعة الرملية، وفي بعض لحظات النشاط الشديد، والانتباه الكبير، كان يختفي هذا الشعور، شعور الاستسلام المتواصل، ليعود، فيظهر صبوراً جلداً في مناسبات الصمت أو التأمل الباطني القصير، كالطنين المتواصل في الأذن، أو كدقة الساعة اللذين يظلان يعملان في حين يكون كل شيء عداهما صامتاً..”
إنه فابريتسيو محاطاً بأفراد عائلته واقطاعاته المترامية، وابن اخته تانكريدي الذي يفضّله عن سائر أبنائه، سرعان ما ينضوي تحت راية الثوار وغاريبالدي، ويقع في غرام انجليكا فائقة الجمال، رغم حب كونشيتا ابنة خاله له، ولتتوالى أحداث الرواية والأمير يشهد تغيرات سياسية واجتماعية واقتصادية، راصداً ذلك من أعماقه، في شاعرية استثنائية ساخرة، تتلقط الإنساني، وتضيء على الخفي في النفس البشرية، في مجاورة لشطحات مدهشة في تحليل الصقليين ومآزق صقلية التاريخية من وجهة نظر الأمير” إن الصقليين لن يريدوا أبداً أن تتحسن أوضاعهم، لسبب بسيط هو أنهم يعتقدون بأنهم كاملون: إن غرورهم أقوى من تعاستهم، وكل تدخل أجنبي – سواء أكان أجنبياً في بأصله، أم ياستقلاله الروحي إذا كان من الصقليين – إنما يقلب تباهيهم بما بلغوه من الكمال، ويُخشى أن يؤدي إلى إقلاق رضاهم بانتظار العدم. وعلى الرغم من أن نحو عشرة شعوب مختلفة قد داستهم، فإنهم يؤمنون بأن لهم ماضياً إمبراطورياً، يعطيهم الحق في جنازات حافلة..”
انتقلت رواية الفهد إلى الشاشة الكبيرة على يدي المخرج الإيطالي الكبير لوتشيانو فيسكونتي ونال سعفة كان الذهبية لعام 1963، ولعل من شاهد الفيلم سيجد صعوبة في أن يبعد عن مخيلته بأن أمير سالينا ليس إلا الممثل بيرت لانكستر، وأن تانكريدي هو آلان ديلون، كذا هي انجليكا التي لعبت دورها الفاتنة كلوديا كاردينالي، ولعل الفيلم ينفتح في انتاجه الضخم ولقطاته البانورامية على التاريخي، وتكون قوة الحدث التاريخي طاغية، وإن كان في النهاية يتتبع اضمحلال الطبقة الارستقراطية في ايطاليا، فموت الأمير ليس إلا موتاً للطبقة “موت العملاق الضاوي (..) ذلك أن معنى الأسرة النبيلة يقوم كله على التقاليد، أي على الذكريات الحياتية، ولقد كان هو آخر من يمتلك ذكريات غير مألوفة، تمتاز عن ذكريات الأسر الأخرى..”
ويجد ادوارد سعيد في كتابه “الأسلوب المتأخر” (دارالآداب – ترجمة: فواز طرابلسي) الذي يتناول الأسلوب الفني في المراحل المتأخرة من عمر المبدع أو كيف يكتسي كلام كبار الفنانين وفكرهم في نهاية حياتهم “لغة جديدة”، يجد في تومازي أعتى التجليات الأدبية لأسلوب “التأخر” غير مكتفٍ به فقط وروايته “الفهد” التي كتبها لأنه “آخر المتحدرين من سلالة نبيلة عريقة تبلغ معه ذروة انطفائها الاقتصادي والجسماني”، بل يمضي خلف فيسكونتي أيضاً، بوصف فيلم “الفهد” هو بداية المرحلة الأخيرة من أفلامه، وليضع تومازي وفيسكونتي أمام أفكار غرامشي عن “المسألة الجنوبية” في إيطاليا، بوصف تومازي في روايته الصقلية مناقض للتشخيص والعلاج الغرامشيين، إذ يعتبره سعيد معادياً سياسياً لغرامشي مسكون بـ “تشاؤم العقل وتشاؤم الإرادة”، فما من تفاؤل بالإرادة كما قول غرامشي الشهير، و تومازي يرى “الجنوبيين” “لا يريدون تحسين أحوالهم أبداً، لسبب بسيط هو ظنهم أنهم بشر بلغوا الكمال، غرورهم أقوى من بؤسهم، أما فيسكونتي فيقول إن المقصود من فيلمه هو تحقيق نظرية غرامشي عن “التحويلية” (تكوّن طبقة حاكمة متوسعة إلى ما لا نهاية)، وليصف سعيد الفيلم بأنه “تقرير جمعي عن انهيار الجنوب..لا يكتفي بتسجيل صقليّة الحقيقية وإنما يطمح لتحويلها أيضاً إلى موضوع استهلاك ممتع”.
يورد باسّاني في معرض تقديمه للطبعة الأولى من “الفهد” وصفاً لجوزييه تومازي دي لامبيدوزا: “رجل تجاوز الخمسين من عمره، شارد وخجول للغاية كأنه شاب صغير، فاجأ جميع الحاضرين وأدهشم، شيوخاً وشباناً. ملامحه تدل على سيد عظيم، لا يميل إلى الاستعراض مطلقاً، بل وحتى أناقة هندامه تعود لزمان آخر، بملابس غامقة اللون، تمتاز بها صقلية”، وقد كانت هذه المرة الأولى والأخيرة التي رأه فيها، ومن ثم باشر بكتابة “الفهد” وفارق الحياة.
_______________________________
(نشر المقال في مجلة “الشارقة الثقافية”)
اسم الكتاب
الفهد
اسم الكاتب
جوزييه تومازي
الناشر
منشورات المتوسط