علينا أن ننتظر وفاة الأب، إذ لابد له أن يفعل في رواية “حتى الطيور تذهب إلى عزائه” للتركي حسن علي طوبتاش (ترجمة جلال فتاح رفعت – إصدار دار المدى 2018)، والأمر يبدأ منذ مجيئه إلى أنقرة لتبديل ساقه الاصطناعية، ومن ثم نتتبع انهياره رويداً رويداً، فنداء مثل نداء الموت يبدأ هامساً ثم يعلو ويعلو إلى أن يصمّ الآذان فلا يجد المنادى إلا مجيباً في النهاية، والآباء “هم العزلة التي كتبت على صفحة أقدارنا” كما يرد في الرواية.
إن هذا الانتظار في الرواية (منشور الفصل الأول منها في هذا العدد) يستدعي حياة تتوالى على مرّ الصفحات تبدو قوة المخيلة فيها مفرطة من شدة واقعيتها، بحيث تكون الرواية على اتصال بالتسجيلي الحسي العميق، و إن كانت الرواية عن الأب فإنه بلا أدنى شك عن الابن أيضاً، أي الراوي الذي لا يتخفى بل يكون الكاتب أيضاً، ويطالعنا ذلك في المقطع الافتتاحي من الرواية “كان الصوت الذي يتصادى رجعه في داخلي قد انسحب إلى بعيد. لهذا السبب لم أستطع أن أكتب ولا كلمة واحدة خلال الأشهر المنصرمة. إذ بقيت طوال الوقت متسمراً هكذا، جالساً خلف الطاولة.” بتحرك الراوي بين أنقرة وقرية أبيه، ذهاباً وإياباً، وعلى وتيرة تطورات وضع الأب الصحي، وفي سياق ذلك تستعاد حياة الأب كاملة انطلاقاً من كيف فقد رجله هو سائق الشاحنة، وصاحب مشاريع نقل عجائبية.
لكن رغم كل ما تقدّم فإنها رواية تتدفق فيها الحياة، تسرع وتتلكأ، وقد أخذت من الحياة قطعة كبيرة مكثّفة هي صفحات الرواية وتواليها، ونهايتها نهاية الحياة أي الموت، من دون أيه نتوءات عاطفية، أو مبالغات، والحزن الذي قد يطالع القارئ شفيف، لا تجهم ولا كآبة.
يمكنني القول بأن الغرائبي في الرواية هو الواقعي، لا لشيء سوى أن الموت غرائبي، وفيه كل حيرتنا، وعلاقة الابن بأبيه غرائبية لكونها مصوّرة في تتبع للحياة المصاغة لتنتهي بالموت، ولابد بالتالي أن يبدو هذا الواقع غرائبياً وعجائبياً إن جرى تصويره كما فعل طوبتاش، وهذا يشمل الغيبي بالتأكيد مثل الحصان الذي يراه الراوي في طريقه إلى قرية أبيه، والذي لا يترك له بأن يبقى تهويماً، إذا يقول له عمه أيوب:
“أما الحصان الذي يتبعك فهو حصان الأجل الموعود. بالتأكيد هو كذلك طالما أنه يجري بنفس السرعة التي تقود بها سيارتك،ولا يأبه بك. إنه حصان الأجل.
لم أعرف ماذ ينبغي علي قوله في تلك اللحظة، ولكنني بلعت ريقي مع شعوري بشيء من الرهبة وفي الوقت نفسه شعرت بالخجل وكأنني أنا من خلق ذلك الحصان.”
وهذا الحصان هو حصان العم الذي يموت أيضاً، وقد وضع صهيله رنةً لهاتفه، يسأل ابنه أن يتصل به كل حين ليسمعه ويستعيد ذكراه.
وإن لم يرد في الرواية شيء بخصوص الفتى المرتدي للأبيض الذي يظهر للراوي، فله أن يكون طيف الأخ الذي مات مبكراً، والذي يظهر ويغيب، وصولاً إلى أواخر الرواية: “كنت أرى العالم من داخل دموعي. عالم ثقيل، مبلل بماء عكر، يرتعش وينفث بخاراً يصاحبه صخب عنيف. ومن مكان جلوسي رأيت ذلك الصبي ذا الرداء الأبيض فنهضت من مكاني على الفور. كان الصبي واقفاً تحت شجرة اللوز، على بعد تسعة قبور، وقد شبك يديه أمامه كأنه يصلي.”
اسم الكتاب
حتى الطيور تذهب إلى عزائه
اسم الكاتب
حسن علي طوبتاش
عدد الصفحات
255
الناشر
دار المدى