سناء عون بعيداً “حيث تشير البوصلة”
العدد 225 | 15 كانون الثاني 2018
زياد عبدالله


على أي جهة ستستقر إبرة البوصلة؟ وإن استقرت على جهة بعينها فهل من المتاح اتباعها؟ حسناً لتكن الوجهة “حيث تشير البوصلة” عنوان مجموعة الكاتبة السورية سناء عون الصادرة أخيراً عن منشورات المتوسط، ولهذه الإبرة أن تتبع كرة القدم في قصة تتوسط المجموعة حملت عنوان Football ونحن نقرأ فيها مونولوجاً للكرة وهي تحت رحمة هذا الفريق وغريمه، تتقاذفها الأقدام “لا أريد أمجادكم ، لست معكم، ولا معهم. بعد قليل سأكون وحدي فعند إطلاق صفارة النهاية، ستعلو هتافات بعضكم، وترتفع راياتهم. وأنا بقدم غريبة، سأقذف بعيداً.”

الإبرة إذن لا تجد مستقراً، ولا تستكين لدرب أو سبيل، والوجهة لا معنى لها أصلاً، طالما أن عون تجترح ما يوازيها، إن أشارت البوصلة إلى درب فإنها تجترح درباً موازياً تحت إملاءات المجاز والتنويع في أدوات القصة القصيرة ومتطلبات فداحة الوقائع والأحداث، وحين تتبع الحب وتجلياته في الحرب، فإنها تلاحق الدهشة، وتحيط سردها بمفاجآت وانعطافات.

تلاحق “حيث تشير البوصلة” سقط متاع الحرب، أوما سقط سهواً أو عمداً، أو ضاع وضُيّع وغيّب في الردم، فيمسي العثور عليه لقية، وتحت املاءات قسوة الشرط الإنساني الذي تعيشه الشخصيات في الحرب السورية فإنها تخلص إلى ابتكارات قاتمة، وحيل لا تقوى على تشتيت شمل غيوم الفجيعة بقدر ما توصلها إلى أقصى ما يمكن صنعه بها، من خلال إعادة تشكيلها وصياغتها.

ففي أول قصة في المجموعة “صور مقطّبة” (منشورة ضمن مواد العدد 225) تمتهن روز في بحثها عن ابنها سامح جمع الصور من أنقاض البيوت، ولتكتشف أن أغلب الصور التي تجمعها مشوهة، منتقلة بعدئذٍ إلى ترميم تلك الصور بالإبرة وخيوط البطانية التي أعطتها إياها جمعية الصليب الأحمر ولتخلص إلى خلق كائنات جديدة “لم يكونوا نساء ورجالاً وأطفالاً، بل كانوا كل ذلك..” والتي هي بالنهاية كائنات الحرب المعجونة بالردم، بقايا كائنات ملتئمة في صور روز، كائنات حية وطبيعة، لم يكتف القصف بالنيل من حيواتها بل صورها وذكرياتها.

هذه المعالجة المجازية للواقع، تنحسر في “عزاء للنهر” وFormat ففيهما تحضر الرواية الموازية للواقع، في الأولى موت أم الراوية يفضي إلى اجتماع عدد كبير من الأمهات في العزاء بما يجعل القارئ أمام تنويعات الفقد وأدلجته في محاولة لرصد وجهات نظر متعارضة،كما هو الحال في استخلاص الأرقام الضرورية من الهاتف قبل أن تمحى في القصة الثانية: أرقام بائع الغاز وبائع الماء، والأصدقاء ومنهم من هو خارج البلاد ومنهم من هو معتقل أو مقتول.

تلتقط سناء عون الحياة والحب والخيانة والمخيلة والغياب، وتخرج من كل مفردة من هذه المفردات بمعادل أدبي خيالي أو حبكة قصصية تتمحور حول مفردة، فالعاشقة من شدة افتقادها حبيبها تتقمصه فتمسي هي – هو في “قوس قزح”: “صورتك تحتل وجهي في المرآة! صورتي تتلاشى أمامك! تقاسيم وجهك تحتل ملامحي. ما العمل؟” ولتكون الإجابة على السؤال بأن تصير “هو”، وفي هذه الشحنة العاطفية “الرومانس” ينخلق خط موازٍ للحالة، تبعاً لتباين الحالة بين  الذكر والأنثى في الحرب، أو أمام الحاجز، وتداخل ما يعيشه الذكر خارج دمشق وما تعيشه هي، بما يخلق مستويات متعددة للحالة، مثلما هي قصة “فستان أحمر” وما يمكن لارتدائه أن يُحدث عند محطة الوقود والناس المنتظرة دورها، سواء كانت الراوية ارتدته أم امرأة أخرى متخيلة.

في قصة “دراجة مفككة” تتحول الدراجة إلى معادل للانتظار، وتداعيها وتفككها زمناً افتراضياً يمضي في سياق القصة، وليس هذا الزمن سوى زمن اختفاء صاحبها سواء اعتقل أو قتل، وصولاً إلى ما نعايشه في “السابع من نيسان” نيسان “أقسى الشهور” والسابع منه عيد ميلاد حزب البعث والحبيبة بانتظار أن تصلها رسالة من حبيبها في تمام السادسة حتى تعدل عن حذف صفحته من “الفايس بوك” فهو إذا لم يتصل بها فهذا يعني أنه اعتقل، ولتأتي قصة “الرحلة الأخيرة للأميرالصغير” وعلاقة ساردها مع الكتب ومصائر مكتبته كما لو أن مصيرها من مصير سورية وكل ما عصف بها من تبدلات كان جراء ملابسات الوضع السياسي السوري.

تستثمر سناء عون في الحالات، تأخذها إلى أقصاها، وفي كل حالة ملمح من ملامح المأساة السورية، بالاتكاء على المعاش والتحايل عليه أو المضي معه، كما لتقول لنا “حيث تشير البوصلة” هذا ما كانت عليه الحياة إبان الحرب السورية، وقد ضاعت البوصلة وتبددت الجهات.

 

اسم الكتاب

حيث تشير البوصلة

اسم الكاتب

سناء عون


كاتب من سورية. مؤسس مجلة أوكسجين ومحترف أوكسجين للنشر. صدرت له العديد من الروايات: "سيرة بطل الأبطال بحيرة الانكشاري ومآثر أسياده العظام (1984 هـ)" – (2019)، و"كلاب المناطق المحررة" (2017)، و"ديناميت" (ط1: 2012. ط2: 2018)، و" برّ دبي" (ط1: 2008. ط2: 2018). وله في القصة القصيرة: "سورية يا حبيبتي" (2021)، و"الوقائع العجيبة لصاحب الاسم المنقوص" (2016). كما صدر له شعراً: "ملائكة الطرقات السريعة" (2005)، و"قبل الحبر بقليل" (2000). من ترجماته: "محترقاً في الماء غارقاً في اللهب-مختارات من قصائد تشارلز بوكوفسكي" (2016)، و"طرق الرؤية" لجون برجر (2018)، و"اليانصيب وقصص أخرى" لشيرلي جاكسون (2022). وله أيضاً كتاب مختارات من التراث العربي بعنوان "الإسلام والضحك- نواضر الخاطر في كل مستطرف باهر" (2018)،  و"لا تقرأ هذا الكتاب إن لم ترَ من السماء إلَّا زرقتها" (2023) الصادر عن محترف أوكسجين للنشر.