سنتان، ثمانية أشهر وثماني عشرة ليلة لسلمان رشدي
العدد 178 | 14 أيلول 2015
ترجمة: شذى يوسف


“تشظية هائلة للواقع” حدثت في القرن العشرين، هذا ما قاله سلمان رشدي،حيث تعرض رواياته هذا الدّمار وتقرّ به برعب وغبطة. ويؤكّد لنا كتابه الجديد أنّ الواقع عانى في الآونة الأخيرة من حالة تفتتٍ وانهيار أكثر من أي وقت مضى، فهو يكاد يكون غير مترابط بعضه ببعض. كما أنّ حالة عدم الاستقرار التي نعيشها الآن ليست إلّا لمحةً بسيطة عن الفوضى التي ستعمّ لاحقاً، الأمر الذي يشرحة الكاتب بشغفٍ كبير. حيث تصبح ضربات الصّواعق الأخروية، النسل النبويّ والعجز الفطري في الجاذبيّة هي القاعدة، كما هو حالُ عفريت الظلام، حيث تبدأ قوى الفوضى الخبيثة بالاستفادة من ضعف نسيج الحياة اليوميّة.

يذكر العنوان الصّعب عدداً ما من الأيام في أشهرٍ وسنوات، ولكن ليس الأسابيع الأربعة التي من شأنها أن تُكمل شهراً طبيعيّاً، حيث يحتاج إلى كلمة “ليالي” ليدلّ على ألف ليلة وليلة الأصليّة. رشدي هنا هو شهرزادنا، قصّةٌ داخل قصّة، وحكايةٌ تتكشف عنها حكايةٌ أخرى بشكل لا ينتهي، مع فرحةٍ لا يمكن كبتها تأتي كصدمةٍ عندما نتذكّر أنّه كما شهرزاد، عاش حياته راوياً للقصص هارباً من الموت. فقد روَت شهرزاد 1،001 حكاية لتؤجّل تهديداً أحمق بالموت؛ كما هو حال رشدي الذي وجد نفسه أمام الخطر عينه، إذ أنّه روى حكايةً لم تكن مقبولة لغاية الآن، مثلها نجح في الهرب، وقد يعيش بقيّة حياته هارباً.

وبمجرّد أن تخطر لي فكرة تلخيص الحبكة، أصرخ وأتراجع ويكاد يغمى عليّ فوق أريكتي يتمتّع رشدي بمخيّلة كسرية Fractal: حبكةٌ تنبثق من حبكة، هكذا إلى ما لا نهاية. فهناك ما لا يقل عن 1،001 من القصص والقصص الفرعيّة، ونفس العدد تقريباً من الشّخصيات. وكلّ ما تحتاج إلى معرفته هو أنهم في الغالب ممتعون للغاية، مسلّون ومبتكَرون.  عددٌ لا بأس به من الشخصيات هم في حقيقة الأمر من الجنّ. حيث يعيش الجنّ في عالم خاص هو “بيرستان”. إلّا أنّ تداعي الواقع والّذي تعاظم منذ الألفية الثانية في عالمنا هذا، أثّر على الجدار الذي يفصل بيننا وبين “بيرستان”، تاركاً فتحاتٍ وشقوق يمكنهم التسلّل من خلالها.

وجود الجنّ في “بيرستان” هو جماعٌ غير منقطع تقريباً في عالم من الترف والرّخاء. ومع ذلك، يجدُ البعض منهم هذا الأمر مملّاً كما قد يشعر بعضنا، ويرغبون بالتسلل إلى عالمنا للترفيه عن أنفسهم عبر العبث بحياة الفانين القصيرة. الجنّ الذكور هم مخلوقاتٌ من لهب، والجنيّات الأناث مخلوقاتٌ من دخان. يتمتّعون بقوى سحر كبيرة، وليس بالكثير من البصيرة والذّكاء.  وكان العناد، التّسرع، والحمق، سبباً في جعل أحدهم محجوزاً هنا بين الحين والآخر، حبيس زجاجةٍ أو مصباح بفعل تعويذة ما.

لفترةٍ من الزّمن لم نر أيّاً من الجنّ فقد أُغلقت ممرّاتهم إلى عالمنا منذ ما يقارب ألف عامٍ مضت، بعد زمن ليس ببعيدٍ عن زمن أميرة الجنيّات العظيمة، دنيا، التي عاشت علاقة حبٍّ أندلسيّة مع الفيلسوف ابن رشد (أرسطو العرب العظيم ابن رشد). وكانت نتيجة هذه العلاقة نسلاً كبيراً بآذان من غير شحمة أذنٍ وبأثرٍ من دم جنيّة. لذلك فإنّ “بيرستان”  باللغة الإنجليزية تعني “عالم الجنّ”.

الحبكة الأساسيّة هنا – شيّدت حول الخلاف الفلسفي بين عقلانيّة ابن رشد وورعِ عالم الدّين “غزالي إيران” (المعروف والمبجّل باسمِ محيي الإيمان وحجّة الإسلام)، الذي وضع الإرادة الإلهيّة فوق كل شيء. بينما حاول ابن رشد التوفيق بين العقل والأخلاق الإنسانية، والله والإيمان، حيث افترض وجود إلهٍ طيّب وإيمانٍ من دون تعصبّ. تحدّى الغزالي. وبذلك حكم على نفسه بالوسم بالعار والنّفي.

التقيتُ رشدي منذ سنوات عديدة، قبل وقتٍ طويل من الفتوى، ولكن لا يمكنني أن أتذكر إن كان لديه شحمتي أذنٍ أم لا.  على أي حال، بعض أوجه التشابه واضحة. هذا الكتاب هو خيال، قصّة خرافيّة – انعكاسٌ رائع وتأمّل مهم بالخيارات والعذابات التي نعيشها في هذا العالم.

الخيارات مذكورةٌ ببساطة، على غرار كتاب هزليّ، بشكل مطلقٍ كالخير والشّر. أمّا العذابات فقد عُرضت بأسلوب أفلام الكوارث، فهي كما الكوارث فظيعة للغاية، ويمكن للقرّاء الّذين لا يودّون التفكير في الأمر التغاضي عنها. رشدي كاتب سخيّ، كما أنّه كاتب بالفطرة يفضّل جذب وإغواء القارئ على أن يحدّ من الحقيقة، بحيث يجعلها أكثر مرارة ويدفعهم لابتلاعها. والأمر سيّان، فمقدّمة الكتاب ما هي إلّا نقش “غويا” الّذي يوجد في مدخل العصر الحديث: نوم العقل ينتج الوحوش .هذه الوحوش وُلدت هنا، ومع أنّه تخيّلها بصورة هزليّة، إلّا أنها ليست وهميّة.

السّيد جيرونيمو، البستانيّ، هو الشخصية الأقوى من بين شخصيات الكتاب الكثيرة.   شخصيّة حيّة عاطفيّاً وجسديّاً، محبّب لقوته، تواضعه وحنينه إلى مدينته الأم، مومباي (والتي بالنسبة له هي ليست مومباي). كما نجد في الكتاب شخصيّات أنثويّةً قويّة أيضاً، العمدة، الفيلسوفة – ولكنّها لا تتعدى كونها شخصيّات كرتونيّة. راوية الحكاية، دنيا، هي أيضاً أنثى، أتمنّى لو لم تكن هناك أيّ مشكلة معها. ليس الأمر كونها من عالم آخر (غير بشرية)؛ فأنت لا تستطيع أن تطلب من أميرة الجنّ أن تكون شيئاً آخر غير حقيقتها. ولكن يمكنك أن تطلب منها عدم التفكير كرجل.

إنجاب الأطفال بهذا الشكل، من سبعة إلى 19 في البطن الواحدة، هو بالتأكيد نهج عمليّ هندسيّ لإنشاء ذريّة كبيرة، ولكن ليس من امرأة واحدة، بل يتمّ انتخاب نساء أخريات  نحن لا نرى دنيا تهتمّ بأطفالها (سيكون من المثير للاهتمام أن نعرف كيف فعلت ذلك)، كما لا نراها مشغولة حقيقة بأمر الأمومة. عندما عادت دنيا إلى الأرض بعد ألف سنة، جاءت للدفاع عن “أبنائها” – ولكن هذا يعني أحفاد أحفاد أحفادها، مجموعة متناثرة من الناس الذين ورثوا آذانهم عن دنيا، تُطلق عليهم اسم (الدنيوييّن)  Duniyat، وبذلك تؤكّد سلطتها كوالدة على هذا النسل.

يطلق على هذه العلاقة عادة  اسم “الأبوة”، ولها قدر كبير من الأهميّة عند رجال البحر الأبيض المتوسط والشعوب العربية. وبشكل أعمّ، في حين تميل النساء غالباً إلى اعتبار أبنائهنّ ورابطة الأمومة فوق أي فكرة مجرّدةٍ تخصّ النسب، يرى الرّجال في أطفالهم، وبشكل خاص الأولاد، وسيلةً للحفاظ على النسب. هذا الاختلاف بين الجنّسين قد يعكس حتميّات بيولوجية، حيث يندفع الذكور لإنتاج جيناتهم، أما الإناث فغايتها رعاية وحمل هذه الجينات. على الرغم من أنّ “دنيا” تعدّ من الثديّات، إلّا أن القلب المحب الذي تملكه والعدد الكبير من الأبناء لا يترك لي مفرّاً من الشّك – فهي كغيرها من النساء المحاربات – رجل في ساحة القتال.

مع اقترابنا من نهاية الكتاب، نجد أنّ ذريّتنا في الألفيّة القادمة تختار التخلّي عن الصّراع كأسلوب حياة. يزرعون حدائقهم بسلام وهدوء بدلاً من زراعة التعصّب والأحقاد، وقد وجدوا أنّه “مهما كان مبرّرُ الغضب قويّاً، فإنّه سيدمّر صاحبه في النهاية”. إلّا أنّه لا بدّ من وجود “لكن”.

بالنّسبة للسفسطائيّة المعاصرة، السّلام يدعو إلى الملل، والاعتدال كلام فارغ، فالإنسان السّعيد أحمق. وها هو  رشدي يتحدّى السفسطائيّة حيث يتخيّل الناس قانعين، ولكن فقط  عند حرمانهم من الأحلام. فلا رؤىً ولا كوابيس. نومهم هو ظلامٌ فارغ. والفكرة هنا هي أنّ هبة التخيّل عند الإنسان لا يمكن أن توجد بمعزل عن الكراهية، الغضب والعدوانيّة وغيرها من السلوكيّات التي تقود الإنسان لشنّ الحروب والتصرّف بوحشيّة والتدمير المتعمّد. ممّا يعني أنّ جنّ الظلام الموجودين داخلنا يمكنهم منحنا الأحلام والرؤى التي قد تكون الطريقة الوحيدة لقبول التوازن الجوهريّ بين روحيّ الإبداع والتدمير الموجودتين داخل كلّ منّا.

لكن باعتقادي أيضاً، أنّ الاستسلام لهذه الفكرة، هو أمرٌ قويٌّ جداً في أدب القرن الـ20، حيث أنّ عمليّات الخلق البطيئة أقل إثارةٍ للاهتمام، وأقلُّ واقعيّة، من الدراما الكارثية التي يخلقها الدّمار. وهذا يتركنا حيث نحن الآن. فإذا كانت زراعة الحديقة أمراً مسفّهاً للعقل، وإذا وجدنا سبباً يمنعنا من الحلم، وإذا كانت الرّحمة تجعلنا ضعفاء – فماذا بعد ذلك؟ العودة إلى الصّراع كحلّ افتراضي؟ زراعة الكراهية والغضب والعنف، إعادة الكهنة والسياسيين وصنّاع الحروب، والانتهاء بتدمير الأرض؟

أتمنّى لو كان بإمكاننا التخلّي عن كلّ هذه الخلافات المزيفة، التي تتجاهل إمكانيّة الاستفادة مما يخلقه وجود كلّ من النور والظلام داخلنا. أحبّ أن أفكّر في عدد القرّاء الّذين سيعجبون بشجاعة هذا الكتاب، ويجدون المتعة في ألوانه الشرسة، صخبه، حسِّ الفكاهة والإثارة الكبير، ويستمتعون بفيض الروح الموجودة فيه.

___________________________________

قراءة أورسلا غوين عن “الغارديان”

اسم الكتاب

سنتان، ثمانية أشهر وثماني عشرة ليلة

اسم الكاتب

سلمان رشدي