تتأسس علاقتي مع روبنسون كروزو على مستويات متعددة، منها ما هو نفسي متمثل بالعزلة والقدرة على اختلاق جزيرة لا ينازعني عليها أحد، وليكون فعل الكتابة والتأليف المعادل الواقعي لهذه النزعة، بينما يأتي مستوى آخر على اتصال بالبدائية وما يهبه كروزو من شعور بأن ما ينعم به الإنسان من مكتسبات حضارية قد تختفي برمشة عين، ما يستدعي العودة إلى البدء الانساني وابتكار أبسط الأدوات لمواصلة الحياة، وليبقى السؤال: وماذا عن الحب؟ ماذا عن الأنثى في حياة البحار الناجي؟ ماذا كان يفعل كروزو في هذا الخصوص؟
مقدمة طويلة نسبياً، لكنها ضرورية خاصة مع التزامي ألا أسترسل أكثر وأمضي خلف مستويات أخرى على اتصال برواية ديفو المقلقة دائماً بالنسبة إلي. أعود وأؤكد على ضرورة المقدمة بينما تسعى هذه الأسطر إلى تقديم قراءة لفيلم “السلحفاة الحمراء” The Red Turtle، قصة وسيناريو وإخراج ميشيل دودوك دي ويت.
فالفيلم يجيب على الأسئلة المتعلقة بالمستوى العاطفي في حياة كروزو، فنحن حيال فيلم تحريك “أنيماشن” ساحر، سرده البصري أخاذ، ولعل كون الفيلم صامتاً يأتي كرهان دقيق على قدرة الصورة المتحركة على سرد الحكاية باتساق مدهش لا حاجة له لحوار أو راوٍ، ثم إن البنية الدارمية للفيلم متأسسة على شخصية واحدة بداية، رجل غرقت السفينة التي كان على متنها وجرفته الأمواج إلى جزيرة نائية، وعليه فإن الصراع الدارمي يكون ماثلاً بالنجاة أولاً الأمر الذي لن يتطلب الكثير من هذا الناجي: جوز هند وأسماك وبحيرة مياه عذبة، لكن من دون أن يخلو ذلك من مخاطر كأن يقع في جوف جبل صخري لا مجال للخروج منه إلا بالغوص عميقاً والمرور من تحت الصخور إلى البحر الوسيع.
الصراع المتكرر في الفيلم ماثل في محاولته الإبحار بعيداً عن الجزيرة، لكن وكلما صنع طوافة ومضى بها بضعة كيلومترات يأتي كائن مجهول من تحت الماء ويهشم طوافته. يكرر المحاولة مرتين، وفي الثالثة يكتشف المتسبب بتهشيم طوافته البدائية، إنها سلحفاة حمراء مدهشة، وهي كما سنستنتج لا تريد سوى منعه من مغادرة الجزيرة.
وكما أن عنوان الفيلم هو “السلحفاة الحمراء” أي أن السلحفاة هي الحكاية كل الحكاية، فهي أيضاً تشكل انعطافة الفيلم “التويست” الأساس في كل ما سنشاهده، تاركاً لكم اكتشاف ذلك، من دون المضي أكثر بالأحداث وتحويل هذه القراءة إلى Spoiler. تكفي الإشارة إلى أن الفيلم يجيب على ما كان يحلم به كروزو ربما على الصعيد العاطفي! أو أحد الاحتمالات الكثيرة في هذا الخصوص! وهذا في النهاية آتٍ من مقاربتي الكروزية للفيلم، ليكون هنا انتصاراً للمخيلة ودفعاً للخيال إلى أقصاه مع اكتشاف حقيقة هذه السلحفاة التي ستضعنا أمام دورة حياة كاملة على سطح هذه الجزيرة المعزولة النائية، قد تبدو هذه الحياة متخيلة إلا أنها حقيقية تماماً وفقاً لمنطق الفيلم وهو عدا حلمين لا يستعين بأي عنصر يضيء على أن ما نراه يحدث في حلم أو مخيلة!
الفيلم هو أولى تجارب دي ويت الروائية الطويلة، هو الذي قدّم أربعة أفلام تحريك قصيرة منها “ابن وابنة” الفائز بأوسكار أفضل فيلم تحريك قصير لعام 2001، ويمكنكم مشاهدته في زاوية “فيديو” في هذا العدد.