»أوفسايد الخرطوم« .. نساء السودان بين مكامن القوة ومواطن الضعف
العدد 259 | 11 أيلول 2020
نوار عكاشه


في أكتوبر من العام 2014، تلقت المخرجة السودانية مروى زين (1985) اتصالاً هاتفياً من السيدة المُؤسِسة لِمنظمة “رؤية” النسويّة غير الحكومية في السودان، تطلب منها صناعة شريط وثائقي قصير من 5 دقائق عن كرة القدم النسائية.
المخرجة؛ خريجة قسم السينما بكلية الفنون بالقاهرة، وصانعة عدة أفلام قصيرة، لبّت الدعوة وسافرت لصناعة هذا الشريط، وما هي إلّا فترة قصيرة حتّى أُغلِقت المنظمة وتعثر مسار الفيلم.
لكن عيشها في الخرطوم تلك الفترة، وتعرُفها باللاعبات اللواتي يتحدين الأوضاع الصعبة والرفض المتكرر لهنّ بِأقل المعطيات، وشعورها بِانتمائها لقضيتهنّ؛ ذلك ما دفعها لاستكمال المشروع وتحويله لِتسجيلي طويل فَكان أول أفلامها الوثائقية الطويلة «أوفسايد الخرطوم» (2019، 75د)، إنتاج: (السودان، النرويج، الدنمارك)، والذّي استغرق إنجازه قرابة 5 سنوات، إلى حين عرضه العالمي الأول بالدورة 69 من مهرجان برلين السينمائي في قسم  (Berlinale Forum) ليشارك بعدها بِحوالي 50 من أهم المهرجانات الدولية، ويحصد 5 جوائز منها، أهمها الأوسكار الإفريقي عن فئة أفضل وثائقي طويل.
يُقدم الشريط في تتر البداية رسالة مَفادُها: “تحت الحكم العسكري الحالي في السودان، لم يكن مسموحاً للنساء لعب كرة القدم، ولم يكن مسموحاً لنا بِالتصوير أيضاً، ولكن..”
للوهلة الأولى نعتقد أننا سنشاهد فيلماً تراجيدياً عن القمع والتعسف والعنصرية الجندرية، لنجد لاحقاً أن مضمون الفيلم يبتعد عن تلك الاستعراضات العاطفية، ونفهم أنّ كلمة “ولكن” الواردة بالبداية هي مفتاحه الذّي سيدخلنا إلى عالم من التحدي السلمي والنضال النسويّ شديد البأس والإصرار.
توثق زين كفاح مجموعة من لاعبات كرة القدم السودانيات لنيل حق الاعتراف الرسمي بِهنّ كَفريق قادر على تمثيل البلاد في البطولات الدولية، مستعرضاً جملة من العوائق والقلاقل والارتباكات والخيبات التّي تحول دون ذلك.
الشخصية الرئيسية في الفيلم هي “سارة إدوارد إرنست جبارة” شابة تنبض بالحياة والعزيمة والكبرياء، تمتلك إصراراً رهيباً لمقاومة الصعاب، وتمسكاً متجذراً بِحلمها، متفائلة ومبتسمة دوماً، تُعاند وتناقش وتحث على تعاضد بنات الفريق، تطلق النكات وتستهزِئ بالصعاب والنظم الفكرية الهشّة التّي كرستها.
يضم الفريق أيضاً مجموعة من الشابات المتيمات بِكرة القدم (نضال فضل الله، فاطمة قدال، إلهام بلاتون، هالة زكريا)، ويبدو انجذابهن لتلك الرياضة نوعاً من ممارسة التحدي للمحيط الاجتماعي الرافض لِحريتهنّ الشخصية.
إذاً نحن أمام وثيقة عن صراع المرأة لِنيل حريتها الشخصية ضد أنظمة سلطة حاكمة ودين ومجتمع وعادات، تخنقها بِالقوانين المانعة لها للتعبير عن كينونتها.
بِالتتابع؛ نتعرف على تلك الصعوبات وآثارها المُضادة للحرية، ونكتشف ارتباطها الوثيق ببعضها وكأنها كتلة عوامل تدعم بعضها وتستعصي على التفكيك، ما يجعل مجابهتها ضرباً من الخيال.
أساسها هو العامل الاجتماعي، فَالنظرة التقليدية للمرأة لازالت تحصرها ضمن قوالب الضعف والقدرات المحدودة والأنوثة الناعمة، وتجعل تبعيتها للرجل إجبارية، وكأنها موجودة لترضيه وتنحت نفسها وفق أهوائه!
نشاهد في الملعب لاعبات بِسراويل طويلة، وبعضهن محجبات. تروي إحدى اللاعبات موقفاً حصل لها على إحدى الحواجز العسكرية بعد تهكم أحد الرجال عليها ومخاطبتها بِصيغة المذكر في إهانة صريحة لأنوثتها التّي لم يرق له أسلوب إظهارها.
في هذا المحور تقدم زين مشهداً تعبيرياً لِأجساد عارية، هو استعادة أصلية لخلق أجسادنا، عُراة مختلفين، دون ألبسة أو أقنعة، لكل جندر صفاته الجسمانية، لكننا كلّنا مجموعة إنسان، لِأرواحنا تجليات، ولأنفسنا مَلَكات، ولِذواتنا هواجسها.
على أساس العامل الاجتماعي والسلطة الذكورية، يسنّ الدين بعضاً من تشريعاته، لكن الشريط لا ينتقد الدين نفسه، بل ينتقد فتاوي شيوخ اليوم الذين يُطلقون الأحكام والأعراف وفق أهوائهم وميولهم الذاتية، ويتذرعون بالدين تبعاً لفهمهم الخاص لهُ، فَنجد بالشريط تحريم كرة القدم على النساء بِحجة عدم مناسبتها لهنّ وأنّها تُلغي الفوارق بينهنّ وبين الرجال، كما احتمال زرعها غريزة العنف لديهنّ، وكأن أجساد النساء أضعف من الحركة وراء كرة بينما يُطلَب منهنّ إنجاز مهام منزلية أصعب بكثير، وكأن غريزة العنف مبررة للرجال على فرض أنّ الرياضة تسبب ذلك!
وكَعادة الأنظمة السياسية والعسكرية الحاكمة في بلدان العالم الثالث، فَإنها تأخذ وصاياها من رجال الدين في تحالف مفضوح بينهما، وهو ما شهدناه بِتبني الحكومة السودانية قرار الإفتاء الصادر بتحريم كرة القدم على النساء، وإعلانه فعلاً مداناً وفق قانون البلاد.
تلك الصعوبات تفرض بالضرورة صعوبات مادية، حيث يغيب الدعم المالي للفريق، ويتمّ احتكاره لصالح فريق الرجال، رغم حصول الاتحاد الرياضي على منح من (الفيفا) لتطوير الرياضة بالسودان، مما يحرم اللاعبات من إمكانية دفع الفريق للأمام وفرصة مشاركته ببطولات خارجية تفيده وتُعَرِفه بِإمكاناته وحجمه الحقيقي بين منتخبات العالم.
يحتكم «أوفسايد الخرطوم» على بطانة سوسيولوجية نسويّة للسودان، فَهو يهتم بِتقديم تفاصيل بطلاته الشعورية ومعالم شخصياتهنّ، كما يركز على خبرتهنّ التجريبية فيما يقدمن من روايات استذكارية أمام الكاميرا يتحدثنّ بها عن مواقف تعرضنّ لها علّمت بالذاكرة.
بتلك العملية تحقق زين تعريف المُشاهد بِبطلات فيلمها كَحالات فردية تعكس حالة جمعية حاصلة للنساء في بلدها، تُقدم نساء السودان بين مكامن القوة ومواطن الضعف، هنّ نساء أشداء العزيمة، ومتصلبات بالإرادة، لكن المكان يسعى بِشتى الوسائل لِكسرهنّ وإطفاء شعلة كبريائهن.
ورغم ابتعادها عن الرسائل السياسية الصريحة، إلّا أنّ الفيلم مُبطَن بِالكثير منها، أبرزها الإهمال الحكومي للرياضة النسويّة وهو محور الفيلم، لكن زين توثق بمسار الأحداث أيضاً تبعات الانفصال بين البلاد وجنوبها، ما يجعل سارة بطلة الفيلم مضطرة لتحمل قوانين تُعامِلُها كَأجنبية وتطلب منها إجراء تحاليل طبية بِشكل مستمر ودون مبرر أحياناً، وهي التّي لا تعترف إلّا بِانتمائها للسودان كُلِّهِ كَوطن، ولم تصوت في استفتاء الانفصال حتّى!
كما نشاهد آثار التهميش الحكومي وما ينتجه من انقسام قومي فكري، ما يجعل المواطن السوداني يشكك بِصوابية عضوية بلده بالجامعة العربية، وهنا نستشعر مدى إحباط السودانيين من صمت العالم حيال ما يجري ببلادهم من عسفٍ ومنعٍ وتنكيلٍ بِالآمال الإنسانية البريئة.
لكن رغم التحديات وتوالي الصدمات، تبقى تلك النسوة صامدات وهو ما نشاهده في نهاية الفيلم المفتوحة على المزيد من النضال بِعزيمة لا تلين.
فَنعود ونتساءل عن معنى عنوان الفيلم وهوية المُتسلل.
هل اللاعبات هنّ من يتسللنّ ويواربنّ على الواقع لتحقيق هدفهنّ بِالحرية والعدالة والمساواة؟أما النظام الحاكم في تسلله على حريات الأفراد وتكبيلها بِقيود ظالمة واهنة الحجة؟
تتر النهاية يجيب على ذلك، وتقدم لنا زين مجموعة من الصور الفوتوغرافية بالأبيض والأسود لِنساء السودان في فترات غابرة وبأبهى أحوالهنّ.
نشاهد صوراً لفريق السودان لكرة السلة (1976)، صورة لِلمصورة السينمائية السودانية وصال موسى حسن عام (1969)، النساء السودانيات في مظاهرة أكتوبر (1964)، فرقة البلابل السودانية المكونة من 3 شقيقات في سبعينيات القرن العشرين، وفد رياضي سوداني بالمكسيك عام (1968).
بِتأمل منفتح، وربط بين ماضٍ بهيٍ وحاضرٍ مُظلِم؛ نعرف تماماً هوية المتسلل، وبمعرفته نفهم مسببات المراوحة بالمكان التّي جعلت السودان متأخراً عن ركب الحضارة الدولية رغم ما يغتني بِه من طاقات بشرية وقدرات عبقرية!

 

*****

خاص بأوكسجين

 


ناقد سينمائي من سورية.