هل ما زال الأفقُ يَحمرّ عندَ المغيب؟ وهل ما زالتِ الطيور تُغرّد في طريقها إلى الغابة؟ أيَمضي الزمن وتذبلُ الورود؟ لقد حانَ وقت الوداع، مثل ريحٍ تبقى للحظةً ثم تمضي، مثل الظلال.
تخيّلْ شاشةً لا تكتفي بعرض حكاية، بل تنزل إلى المقاعدِ لتفتّشَ جيوبك عن ذاكرتِك الشخصية ومخاوفِك الدفينة. هذا بالضبط ما يفعله لي تشانغ-دونغ: الجراحُ الذي يعمل بمِبضَعٍ صغير وجرأةٍ كبيرة؛ يُحدِثُ شقًّاً غيرَ مرئيٍّ في حنايا اليومي، ثم يقف جانباً ليستمعَ إلى صفير الهواء وهو يدخل الجرح.
إذا أردنا أن نقدّم تعريفاً بهذا المخرج، يمكننا القول: الوظيفةُ الرسمية: مخرج، روائي، وزيرُ ثقافةٍ سابق. الوظيفةُ الحقيقية: مُفسِدُ الزينةِ على الشاشة، خبيرٌ في تعرية الاستعارة.
ستةُ أفلامٍ فقط، لكنها تكفي لزرعِ حقل ألغامٍ في مخيلة العالم: من “سمكة خضراء” Green Fish إلى “حلوى النعناع” Peppermint Candy ومن “واحة” Oasis إلى “شروق سرّي” Secret Sunshine ثم “شِعر” Poetry، وأخيراً “محترقاً” Burning. كلها تسلّقٌ على سُلّمٍ ينقصُه آخر درجتين، كي يظلَّ الرأس معلّقاً في فراغ.
في “شِعر” لا نعرفُ تحديداً متى يبدأ الفيلم: حين تطفو جثة فتاةٍ على سطح النهر؟ أم حين يُطلب منّا التحديق في تفّاحةٍ كأنّنا بشرٌ لم يرَوا فاكهةً من قبل؟ هنا، يجرّد تشانغ-دونغ المجاز من زينته. التفّاحةُ ليستْ رمزًا للخطيئة، ولا لاستمرار الحياة، إنّها تفّاحةٌ وحسب، لكنّك إذا نظرتَ إليها كما أوصى أستاذُ الشعر، ستكتشف عدداً من التجاعيد يكفي لتأريخ عصرٍ كامل من الاستعجال البشري.
هذا ما يمنح أفلامه طابعَ “الأنتي-شِعريّ” أو المناقض للشعري: لا يهتمّ بأن يكون عظيماً، بقدر ما يهتمّ بأن يكون صادقاً إلى حدٍّ يُحرِج العظمةَ المُزيّفة.
أُشاهد المشاهدَ وأنا أتحسّس أحد أكبر هواجسي: فقدانُ المفردات. هاجسٌ لا يبدأ عندما تُقال كلمةُ “ألزهايمر”، بل قبلها بنبضة، حين يُسرَق حرفٌ من جملةٍ عادية، وأشعر بالفراغ يتّسع بين الألف واللام. لذلك حين يطفو الجسد في الافتتاحية، أرتجف، كأنّ ماء النهر يُسرّبُ فجأةً مفرداتي الشخصية. يهبطُ الجسد، فتهدأ الشاشة، وكأنّ العالمَ كان دائماً صفحةَ ماءٍ ثقيلة، تحجبُ كلَّ ما تحتها. الظلُّ الداكن ينتشر مثل حبرٍ في ورقةِ امتحانٍ أفلتت من المراقب. الفتاة بلا عنوان، بلا سيرة، إلّا تلك التي ستُكتب بعد موتها. جسدٌ خفيف، مثلُ سطرٍ مقطوع، يحمله التيار إلى الصفحة البيضاء للنهر. والجدّةُ “مي جا”: ستةٌ وستّون عاماً من الأزهار المتأخّرة. تعمل جليسةً لرجلٍ نصفِ مشلول، وتجلسُ مساءً في صفّ الشعر، كأنّ مقعدَ المدرسة هو آخر قارب نجاةٍ من الفيضان الذي يُسمّونه “ألزهايمر”.
حين يُخبرُها الطبيب عن الخرف المبكّر، يقترح المشهد من دون أن يقصد صدى بعيداً لعيون فاتن حمامة في “ليلة القبض على فاطمة”. تتّسعُ العينان بدهشة، تنكمشان فوراً إلى خطٍّ رفيع، كحدّ السكين. تلمع دمعتان ولا تنزلان. النظرةُ تثقب الهواء، توزّع الاتهام والابتسامة الحائرة بالتساوي على الطبيب، الشرطي، والكاميرا.
ما بين الوميضين: وميضُ فقدِ الذاكرة، ووميض مصادرة العقل. هناك، يحدثُ التقاطع: اقتصادٌ حادٌّ في الانفعال، لغة جفنٍ وجفنٍ مضادٍ للجاذبية. كاميرا ثابتة تنتظر أن ترتعش الحدقة.
ومع ذلك، يسلكُ الضوءُ مسارَين متعاكسين: عينا مي جا تهويان إلى الداخلِ بحثاً عن كلمةٍ طافية، وعينا فاطمة تقفزان إلى الخارج مثلَ حجرٍ يحتجُّ على إسكات النبع. ذاك ذهولٌ وجوديٌّ يتساءل: هل تُنقذني قصيدةٌ بيضاء؟ وهذا تحدٍّ حقوقيٌّ يصرخ: لا أحدَ يملكُ حقي في الصمت.
وما بين السؤال والصرخة، يظلُّ السرُّ واحداً: كلّما ضاقت اللغة، اتّسعت العين.
أمام كلامِ الطبيب وتهديدِ قفلِ المكتبة الداخلية، نجدُ أنفسنا مع مي جا أمام سباقٍ بين من يمحو أسرع: الماءُ الذي سحبَ الفتاةَ إلى قعره؟ أم النسيانُ الذي يستعدُّ لابتلاعِ قاموسِ الجدّة؟ التي كانت معلّمةُ اللغة قد قالت لها وهي طفلة إنّ دمَها صالحٌ للحبر.
تهربُ مي جا، وأتبعُها، إلى ورشة شِعرٍ متقشّف، يطلبُ فيها المُدرِّس من طلابه تعلُّم النظر حقاً. المُدرّس لا يَعِدُ الطلاب بشهرةٍ أو مجد؛ يقول إنّ أهمَّ شيءٍ في الحياة هو أن ترى. هذا الدرس يُحرّرها من وهم البلاغة الكبيرة، ويمنحها أداةً عملية: تفاحةٌ واحدة، شقّةٌ كئيبة، رائحةُ قشٍّ مبتلّ، تكفي لإشعال شرارةِ القصيدة.
لذلك يمكن القول إن الورشة وفّرت المفتاح، لكن أمام أسئلة الشعر الكبيرة، نجدنا مرغمين على القول إن الجثة هي الباب الذي لا بد من فَتَحه.
تعود مي جا إلى البيت، ترى النهر في التلفاز يتكرّر في نشراتِ الأخبار. التفاحة تتقشّر في المطبخ، والجسد يتقشّر في الماء. ولا تدري أيُّهما الدرس وأيُّهما الشرح.
ويأتي التشقّقُ عندما يتجسّدُ الفراغُ الأخلاقي في اجتماعِ الآباء. صندوقٌ أبيض، مع شريطٍ يعرض فكرة أن النقود تستطيع اختصار العدالة. الظرفُ الثقيل يعني أن الضحية تستطيع أخيرًا أن تنام، وعلى كلّ أبٍ أن يدفعَ نصيبَه من وسادةِ النوم تلك.
عندئذ، تتعلّم مي جا اللغة الحقيقية لمدينتها: الندم ليس فعلاً جماعياً، بل خطةُ سداد. هي لا تملك حصّتَها، فتُخرج جسدَها من حسابات الرحمة، ليُصبح بنداً أخيراً في مفكّرة الديون.
باب الحمّام يبتلعُ الضوء. مغطسٌ فاترٌ يعيد تمثيل النهر في غرفةٍ ضيّقة. هناك، تكتشف أن الماء لا يعرف الفرق بين غريقٍ يصرخ وغريقٍ يُساوم على ثمن الصرخة عبر فعل ابتزاز.
الحدثُ ينسخ جريمةَ الفتيان، لكن في صورةٍ مقلوبة. في الاغتصاب الجماعي كانت القوّةُ عند الشبان، والجسد المشلول عند الضحية. هنا، القوّة الرمزية عند الممرضة السليمة، والجسد المشلول عند الرجل. الجدّة تعيد تمثيلَ المشهد بطريقةٍ تُجرّد الفعل من لذّته المحتملة، تُحوّله إلى اعترافٍ جسدي: “أنا أيضاً يمكن أن أُخضع لقانون المعاملة كشيء”. كأنّها تقول إن العار لن يُطهَّر بتسويةٍ نقدية، ما لم يلمس أحدٌ جسدَه جرح الخضوع.
تحاول مي جا كتابةَ شيءٍ على الورق، وعندما تعود، تسمع الفتاة تسألها من تحت طبقة العَكَر: “كيف هو الحال هناك؟ كم هو موحشٌ ذلك المكان؟” فتكتب السؤال كما هو، تحفره في المسودة، كمن يحفر أظافره في جدارٍ أخير قبل أن تُطفأ الأنوار.
عندما يأتي اليوم الذي يتحوّل فيه اسم الفتاة إلى صورةٍ بإطارٍ أبيض، وتتحوّل القاعة المدرسية إلى غرفة عزاءٍ وظيفتُها طيُّ الدوام قليلاً لا أكثر، تضع مي جا زهرة مشمشٍ بريّة فوق الصندوق النقدي. وترى الأمَّ تُمسّد البتلات بإصبعين مرتجفَين، كأنّها تتحسّس صدقَها، أو تبحثُ عن رائحةٍ ما. لا جوقةَ تُغني، ولا عازف كمانٍ يبكي نيابةً عن أحد؛ فقط ساعة الحائط تُذكّر الجميع أنّ الغياب لا يلغي العقاب.
في تلك الهوة الزمنية المحرجة، يتسلّل سطرٌ ثانٍ من القصيدة:
“هل ما زال الأفقُ يَحمرّ عندَ المغيب؟ وهل ما زالت الطيور تُغرّد في طريقِها إلى الغابة؟” سؤالٌ حميميٌّ جداً، حتى أنه يبدو وقحاً في حضرة عزاءٍ رسميٍّ بارد.
المباراة في ساحة الحي تبدأ بريشةٍ خفيفة. اختيار المخرج أن يتركَ الكاميرا ثابتة عند حافة الملعب، يحرم المشاهد من أيّ شعورٍ مريح بالفرجة الرياضية. يتحوّل الملعب إلى خشبة مسرح تُقدَّم عليها مباراةٌ داخلية عن صراع الاعتراف ولعبة الإنكار.
وما إن تتوقف المباراة، حتى يهبط على الشاشة صمتٌ أكثر كثافةً من السابق، كأنّ الصوت الخفيف للريشة كان خيط الأوكسجين الأخير في صدفةٍ تُغلِقها المياه رويداً رويداً. وتنتهي المباراة بلا صافرة، كأنّ الهواء نفسه يرفض إعلان فائز. الريشةُ تختفي خلف سورِ الملعب، وتنسدل فوق الساحة سكينةٌ أثقل من ضربة مضربٍ أخيرة.
يكاد الحفيد يتنفّس الصعداء، لكن الفيلم ماكرٌ بما يكفي ليؤجِّل الشهيق: يدخل الضابط—ذلك الرجل نفسه الذي لمسَها بكلماتٍ رخوة في قراءة الشعر—من بوابة المدرسة. يتحرّك بخطواتٍ محسوبة، لا يستعجل ولا يعتذر.
تستقبله الجدّة كما لو كان نتيجةً طبيعية للعبةٍ انتهت؛ لا صياح، لا دموع، فقط ارتعاشةٌ بالكاد تُرى في اليد التي لا تزال تمسك المضرب. يقرأ اسم الحفيد من لائحة، اسمٌ كان قبل دقائق يطيرُ مع الريشة ويهبط مثل نكتة مراهقين، فإذا به الآن حجرٌ يسقط من جيب سلطةٍ لا ترأف.
توقيعه على ورقة التبليغ أشبه بختمٍ أخير على قصيدةٍ اكتملت بشطرٍ ناقص. الضوء المائل في باحة المدرسة يكشفُ تعرّق الزنزانات الإسمنتية أكثر مما يكشف ملامحَ الفتى؛ وتلك الموسيقى—نقرُ كعبي الضابط على البلاط—تحلُّ محلَّ صفير الريشة، فتربط خفّةَ الهواء بانغلاق الأصفاد.
الريشة تظلُّ تهبط حتى بعد أن تُغلق الأبواب المعدنية، ويتردّد صداها مع بيتٍ جديدٍ يولد على حافتها: “أيَمضي الزمن وتذبل الورود؟ لقد حان وقت الوداع، مثل ريحٍ تبقى لحظةً ثم تمضي، مثلَ الظلام”.
وأخيرًا، تُقرأ القصيدة في الصفّ الخالي تقريباً. مي جا غائبةٌ جسداً، حاصرة صوتاً. الأبيات تنساب كخيطِ دمٍ لم تبرد حرارته: “أتستطيعين تلقي الرسالة التي لم أجرؤ على إرسالها؟ أيمكنني أن أبلغكِ الاعتراف الذي عجزتُ عن قوله؟” ثم تهبطُ الخاتمة على شكلِ حلمٍ: ضوءٌ أخير. “قبل أن أعبرَ النهر الأسود بآخر أنفاسي، يبدأ حلمٌ: صباحٌ مشرقٌ، مشمس، وأراك واقفةً إلى جانبي…”
عند ذاك، تختفي الحدود بين النهر والمغطس وصفِّ المدرسة؛ كلُّها مياهٌ مختلفةُ الملوحة، تسعى إلى إخفاء أو إظهار الاسم. والشِّعر هو الزيت الذي يرفض الامتزاج.
الآن، عندما نُعيد مشاهدة “شِعر”، نعرف أن القصيدة التي تبحث عنها مي جا كانت مكتوبةً منذ البداية، لكن الحبر كان ماءً، وماء النهر لا يحتفظ بالنصِّ طويلاً.
في المنتهى آتي على ذكر إشاعة حبٍّ محتمل، إذ يقال إن تشانغ دونغ يستعدّ لتصوير فيلمٍ جديد عنوانه “حب محتمل” Possible Love.
يبدو العنوان دعابة سوداء من مخرجٍ لا يثق كثيراً بالأدلة الجنائية للقلب. التصوير هذا الخريف، والموعدُ المأمول: كانون الأول أو الثاني 2026.
حين غادرتُ القاعة، تذكّرتُ اسمَكِ كاملاً. تنفّستُ بعمق، وحاولتُ كتابةَ لونِ الماء، قبل أن يُعيد موظّفو الصمت طلاؤه بلونٍ يناسب التقرير المقبل.
ربّما يعود النهرُ غدًا ليطالبَ بوثيقةٍ أخرى، وسيحتاج إلى شاهدٍ يتذكّر كيف كانت الريشةُ تبدو خفيفةً حين عبرتِ السماء نحو سقوطٍ لا يحمل اسمًا، إلا إذا سُمّي وأنصتَ إلى ما تبقّى:
قصيدةٌ تطفو كزيتٍ يرفضُ المساومةَ على كثافتِه.
اسمٌ يتعلّقُ بحرفِ نداءٍ تجمّدَ في حَلْقِ اللغة.
ورسالةٌ تقول:
احتفظْ بمعجمك الصغير في جيبك، فالمرض والمال والمحاضر الرسميّة تعمل ليلَ نهار على محوِ الأسماء، من الماء، ومن الذاكرة، ومن صدى الريشة.
وأنتِ، أيتها الكلمات، تَعالي بلا شَدّةٍ ولا فَتحة، فالهواء ضيّق، والنوافذ نسيت الترحاب. كفانا من الأقفاصِ ما يكفي لحديقة حيوانٍ نحاسية…
كوني حيواناتٍ تتسلّق الغيابَ بظفرٍ خشن، تحتفي بهذه الرائحة، وتُسمّيها: “البيت الذي لا يمكن هدمُه”.
*****
خاص بأوكسجين