سيمتزج الأدبي مع السينمائي في حديثي عن فيلم Genius “عبقري” للمخرج مايكل غرانداج (في أولى تجاربه الإخراجية السينمائية)، ولتكون الغلبة للأول، ليس لأن الفيلم عن الكاتب الأميركي توماس وولف (1900 – 1938) فقط، بل لأن الدرامي في الفيلم متعلق بالأدبي وقصة الفيلم متمركزة أولاً وأخيراً على علاقة وولف (جود لو) بالمحرر الأدبي في دار “سكربنر” للنشر ماكس بيركنز (كولين فيرث)، الأول يكتب لكنه لا يعرف التوقف، بينما يتولى الثاني أمر ضبط هذه الكتابة المتدفقة وهو مؤمن بعبقرية وولف واستثنائيته، وعليه يتولى بيركنس مهام التحرير والحذف وتحويل أولى روايات وولف التي تكون بداية مكونة من 5 آلاف صفحة إلى رواية صالحة للطباعة والنشر وبالتالي القراءة.
يضيء ما تقدّم على الخيط الناظم لحكاية الفيلم، كذلك هو صراعه الدرامي، فهو صراع بين موهبة أدبية برية يروضها محرر في دار نشر، سبق له أن حرر روايات أرنست هيمنغواي وسكوت فيتزجرالد، وعدا ذلك فإن بيركنز يكون مكتشف وولف، وبعد النجاح الذي سيحققه وولف فإن الصراع يمسي كامناً بسعيه التخلص من بيركنز ليثبت للآخرين ولنفسه بأنه يستطيع مواصلة نجاحه من دونه.
يبدأ الفيلم مع وصول رواية وولف إلى مكتب بيركنز – أثناء اشتغاله على رواية همنغواي الشهيرة “وداعاً أيها السلاح”- بعد أن تكون قد رفضت من جميع دور النشر التي قدمت إليها في نيويورك، حيث توضع رزمة هائلة من الأوراق على طاولته، وحين يبدأ بقراءتها لا يستطيع التوقف! يواصل القراءة في القطار، وصولا إلى البيت ويمضي وقته رفقة زوجته وبناته وهو ساهم يتفكر بالرواية وهو لا يكف عن قراءتها، ولي أن أترجم هنا بدايتها التي تتوالى أسطرها كـ “فويس أوفر” ترافق مشهد القطار والوقت الذي يمضيه بيركنز في بيته:
“.. حجر، ورقة شجر، باب ضائع؛ من حجر، من ورقة شجر، من باب وكل الوجوه المنسية.
عراة ووحيدون جئنا إلى المنفى. ما عرفنا وجه أمنا في رحمها المعتم، من سجن لحمها جئنا السجن الصموت والكتوم لهذي الأرض.
مَنْ منا عرف أخاه؟ مَنْ منا نظر إلى قلب أبيه؟ مَنْ منا لم يبق حبيس سجن إلى الأبد؟ مَنْ منا لم يكن غريباً ووحيداً أبداً؟”
يكون عنوان الرواية بداية “ضائع” وليمسي بعد التعديلات الكثيرة “انظر إلى البيت يا أيها الملاك” – إن صحت الترجمة – والتي صدرت عام 1929 وليقدم إلى بيركنز بعد ذلك رواية ثانية لكن هذه المرة فإنه سيحتاج إلى عاملين يحملان له الرواية التي تكون مكونة من عدد هائلٍ من الصفحات استدعى حملها ثلاثة صناديق كبيرة.
إنه فيلم عن التحرير الأدبي، عن فن الحذف، ولن يكون الدرامي في الفيلم شاغل كاتب السيناريو جون لوغان ولا المخرج غرانداج، فهما مشغولان تماما بعلاقة بيركنز وولف، وإلى جانب ذلك هناك مساحة درامية تظهر ثانوية في الفيلم ألا وهي علاقة وولف بحبيبته آلين (نيكول كيدمان)، المرأة الثرية التي تهجر زوجها وابنيها لتعيش معه وتنفق عليه في سنوات بؤسه، هي التي تكبره بـ 19 عاماً، وهنا تتبدّى شخصية وولف الذي لا يريد لأي شيء أن يكون عائقاً بينه وبين الكتابة ومجدها، وليبدو ذلك جلياً مع ظهور سكوت فيتزجرالد وقد هجرته الكتابة ودخل في نفق انهياره الشهير، بينما زوجته زيلدا على حافة الجنون أو جنت تماما، ولعل المقارنة بين موقف وولف من آلين التي يهجرها ويجد في كل ما تفعله لكي تستعيده تمثيلا لا طائل منه، وحرص فيتزجرالد على زيلدا والعناية بها، ليكونا على طرفي النقيض! فوولف وحين تحاول آلين الانتحار في مكتب بيركنز، يستخلص من فمها حبات الدواء التي تجرعتها، يسألها المضي إلى البيت ولا يرافقها، بل يواصل نقاشه مع بيركنز حول روايته الثانية “عن النهر والوقت” كأن شيئاً لم يحدث.
يهدي وولف روايته الأولى إلى آلين، والثانية إلى بيركنز، ولتعتبر إيلين أن إهداءه بيركنز يعني أنه ينوي هجرانه، كما فعل معها عندما أهداها روايته الأولى، ويعلّق همنغواي على ذلك بقوله “إن الإهداء يشبه الكتابة على شاهدة قبر”.
تتصدر عبارة “قصة حقيقية” الفيلم، من دون أن تكون تلك العبارة مسبوقة بـ “مقتبس” أو “مأخوذ”، ويعتمد الفيلم على كتاب سكوت بيرغ “ماكس بيركنز: محرر العبقري”، ولعل عبارة “قصة حقيقية” استفزت كثيراً الناقد ريتشارد برودي في مجلة “نيويوركر” والتي نشرت مقالا جميلا له يتتبع فيه ما ورد في كتاب بيرغ ومدى اختلافه عما ظهر في الفيلم، وهكذا فإنني أعيد وأؤكد ما بدأت به أن الأدبي متفوق على السينمائي في هذا الفيلم، وأنا أتساءل بعد مشاهدة الفيلم بأن هناك سوء استخدام للعناصر الدرامية في حياة وولف، ولتكون علاقة وولف مع بيركنز ما يسعى لتقديمه الفيلم وليس وولف، لدرجة التساؤل: ومن هو العبقري؟