تقرؤون في ما يلي مقتطفاً من الفصل الأول من كتاب “العودة إلى متوشالح” الصادر أخيراً عن “محترف أوكسجين للنشر”
حواء [ مُجفلة ]: مَنْ هذا؟
الأفعى: إنّه أنا. أتيتُ لأريك قلنسوتي الجـــديدة الجـــميلة.أترين. [ ونشرت قلنسوة أرجوانيّة رائعة]!
حواء: [ مُعجبة بها ] أوه! ولكنْ مَنْ علّمكِ الكلام؟
الأفعى: أنتِ وآدم. لقد زحفتُ بين الأعشاب، واختبأتُ هناك، وأصغيتُ إليكما.
حواء: هذه براعة فذّة منك.
الأفعى: إنني أذكى مخلوقات الحقل كلها.
حواء: وقلنســـوتك فائقة الجمال. [ وداعبت الأفعى بتحبّب ] ما أجملها! هل تحبّين عرّابتك حواء؟
الأفعى: إنني أعبدها. [ وتلعق عنق حوّاء بلسانها المزدوج ]
حواء: [ تداعبها ] أنت حيّة حواء الأثيرة الرائعة. لن تكون حواء وحيدة بعد الآن بما أنَّ صديقتها الحيّة تستطيع أنْ تتكلَّم معها.
الحيّة: أستطيع أنْ أقول أشياء كثيرة. أنا حكيمة جداً. أنا التي همست لك بالكلمة التي لم تكوني تعرفينها. ميّت. موت. يموت.
حواء: [ ترتعش ] لِمَ تُذكِّرينني بها. لقد نسيتُها عندما رأيتُ قلنسوتك الجميلة. لا ينبغي أنْ تذكّرينني بالأشياء البغيضة.
الأفعى: الموت ليس شيئاً بغيضاً عندما تتعلّمين كيف تتغلبين عليه.
حواء: وكيف أتغلّب عليه؟
الأفعى: بشيءٍ آخر. سمِّه المولد.
حوّاء: ماذا؟ [ مُحاولة أنْ تنطقها ] مو-لد؟
الأفعى: نعم. مولد.
حواء: ما المولد؟
الأفعى: الأفعى لا تموت أبداً. ذات يوم سوف ترينني أخرج من هذا الجلد الجميل، حيّة جديدة بجلد جديد وأكثر جمالاً. هذا هو المولد.
حواء: لقد سبقَ أنْ رأيتُ هذا. وهو أمر رائع.
الأفعى: إذا كنتُ قادرة على فعل هذا، فما الذي لا أستطيع القيام به؟ لقد أخبرتك بأني شديدة الذكاء. عندما تتحدثان أنتِ وآدم، أسمعكما تقولان “لماذا؟” دائماً “لماذا؟” تشاهدان أشياء وتقولان “لماذا؟” أما أنا فأحلم بأشياء لا وجود لها البتّة؛ وأقول “لِمَ لا؟” وجعلتُ كلمة ميِّتْ تصِفُ جلدي القديم الذي طرحته عندما كنتُ أُجدِّده. وأسمّي عمليّة التجديد تلك مولد.
حواء: كلمة مولود كلمة جميلة.
الأفعى: لِمَ لا تولدين مراراً وتكراراً كما أفعل أنا، وتُصبحين جديدة وجميلة في كل مرَّة؟
حواء: أنا! إنّه لا يحدث معي: هذا هو السبب.
الأفعى: تقولين إنّه لا يحدث، لكنك لا تفسرين السبب. لِمَ لا يحدث؟
حواء: لكني لا أريد ذلك. جميل أنْ يعود المرء جديداً، لكنَّ جلدي القديم سوف يسقط على الأرض وهو يُشبهني تماماً، وسوف يراه آدم متغضّناً و…
الأفعى: كلا. ليس في حاجة إلى النظر، لأنّ الجلد سيولد من جديد.
حواء: سيولد من جديد؟
الأفعى: اسمعي، سوف أفشي لكِ سرّاً عظيماً. أنا شديدة الذكاء، وقد فكّرت وأطلتُ التفكير. وأنا عنيدة جداً، وأصرّ على الحصول على ما أريد، وقد أردتُ أشياء كثيرة. والتهمتُ أشياء غريبة: حجارة وتفاحاً لا تجرئين على أكلها.
حواء: وأنت جرؤت!
الأفعى: أنا جــرأت على فعـــــــــل كل شيء. وأخيراً وجــــدتُ وسيلة لجـمع جزء من الحــياة في جسمي –
حواء: ما هي الحياة؟
الأفعى: إنها الشيء الذي يُحدِث فرقاً بين الخِشف[1] الميت والخِشف الحيّ.
حواء: ما أجملها من كلمة! ويا له من شيء رائع! الحياة هي أجمل الكلمات الجديدة كلها.
الأفعى: نعم: وعبر التأمّل في الحياة اكتسبت المقدرة على اجتراح المُعجزات.
حواء: معجزات؟ كلمة جديدة أخرى.
الأفعى: المعجزة هي شيء مستحيل لكنه مع ذلك ممكن. شيء لا يمكن أنْ يحدث، لكنّه يحدث.
حواء: أخبريني عن معجزة صنعتها.
الأفعى: جمعتُ جزءاً من الحياة في جسمي، وأغلقتُ عليه داخل علبة بيضاء صغيرة مصنوعة من الججارة التي كنتُ قد أكلتها.
حواء: وما فائدة ذلك؟
الأفعى: كشفت العلبة الصغيرة أمام الشمس، وأبقيتها مُعرَّضة لدفئها. فانفجرت، وخرجت منها أفعى صغيرة، وأخذت تكبر شيئاً فشيئاً على مرّ الأيام إلى أنْ أضحت بحجمي. وكان ذلك هو المولد الثاني.
حواء: أوه! هذا رائع. إنّه يتحرك داخلي. يؤلمني.
الأفعى: كاد يُمزّقني أشلاءً. لكنني حيّة أُرزق، وأستطيع أنْ أمزّق جلدي وأُجدِّد نفسي وأعود كما كنتُ من قبل. وقريباً ستمتلئ جنّة عدن بالأفاعي بقدر عدد الحراشف على جسمي. عندئذٍ لن يكون الموت شيئاً هاماً: سوف تموت هذه الأفعى وتلك، لكنَّ الأفاعي ستبقى.
حواء: لكنَّ بقيتنا سوف تموت عاجلاً أو آجلاً، كما حدث للخِشف. وحينئذٍ لن تتبقّى غير الأفاعي، وتنتشر الأفاعي في كل مكان.
الأفعى: لا ينبغي أنْ يحدث هذا. إنني أعبدك، يا حواء. يجب أنْ يتوفّر لدي شيء أعبده. شيء يختلف عني تماماً، يُشبهك. يجب أنْ يكون هناك شيء أعظم من الأفعى.
حواء: نعم: لا ينبغي أنْ يحدث. لا ينبغي أنْ يزول آدم. أنتِ شديدة الذكاء: أخبريني ماذا يجب أنْ أفعل.
الأفعى: فكّري. إعملي إرادتك. ثابري. العقي الحجر الأبيض: اقضمي التفاحة التي تخافين، وسوف تمنحك الشمس الحياة.
حواء: أنا لا أثق بالشمس. سوف أمنح الحياة بنفسي. سوف أنتزع من جسمي آدم آخر إذا مزّقت جسمي إرباً في أثناء ذلك.
الأفعى: افعلي. كوني جريئة. كل شيء ممكن: كل شيء. اسمعي، أنا عجوز. أنا الأفعى العجوز، أكبر سناً من آدم، ومن حواء. أتذكَّرُ ليليث[2]، التي جاءت قبل آدم وحواء. كنت أثيرة لديها كما أنا بالنسبة إليك الآن. كانت وحدها، ولا يوجد رجل بصحبتها. شاهدتْ الموت كما شاهدتِه أنت عندما رأيت الخِشف، وعلِمتْ حينئذٍ أنَّ عليها أنْ تكتشف كيف تُجدِّد نفسها وتطرح جلدها كما فعلتُ. كانت صاحبة إرادة جبّارة: كافحت طويلاً وفرضَت إرادتها سنين عديدة يفوق عددها عدد أوراق أشجار الجنّة. تحمّلت آلاماً مُبرحة، وحرمها الأنين من نوم ليالي عدن. وقالت إنَّ هذا لن يحدث مرّة أخرى، وإنَّ عبء تجديد الحياة يفوق طاقتها على التحمّل، وإنّه عبء ثقيل على شخص واحد. وعندما طرحت عنها جلدها، يا للهول، لم تعد هناك ليليث واحدة بل اثنتان: واحدة تشبهها، وأخرى تشبه آدم. الأولى كانت أنت، والأخرى كانت آدم.
حواء: ولكن لِمَ انقسمت إلى اثنتين، وجعلتنا مختلفين؟
الأفعى: لقد أخبرتك أنَّ آلام المخاض تفوق طاقة شخص واحد على تحمّلها، ويجب أنْ يتحمّلها اثنان.
حواء: أتعني أنَّ على آدم أنْ يتحمّلها معي؟ لن يفعل. إنّه لا يتحمّل الألم، ولا يهتم بجسمه.
الأفعى: ليس في حاجة إلى هذا. لن يتحمّل أي ألم. سوف يُناشدك لكي تسمحي له بتحمّل نصيبه. سوف يُجاريك في القوة عبر شهوته.
حواء: إذن سأفعل. ولكن كيف؟ كيف صنعتْ ليليث تلك المعجزة؟
الأفعى: تخيَّلتْها.
حواء: ما معنى التخيّل؟
الأفعى: لقد أخبرَتْني عنه على شكل حكاية رائعة عن شيءٍ لم يحدث قط مع ليليث أخرى لم تكن موجودة. لم تعلم حينئذٍ أنَّ المُخيّلة هي بداية الخلق. أنتِ تتخيّلين ما ترغبين فيه، وسوف تريدين ما ترغبين، وأخيراً سوف تخلقين ما تريدين.
حواء: كيف أخلق شيئاً من لا شيء؟
الأفعى: لابد أنَّ كل شيء قد خُلِقَ من لا شيء. انظري إلى تلك الكتلة من اللحم القاسي على ذراعك القويّ! إنّه لم يكن موجوداً هناك دائماً: عندما رأيتك أول مرة لم يكن في استطاعتك أنْ ترتقي شجرة. لكنّكِ أردتِ ذلك وجرّبتِ وأردتِ وجرَّبت، وإرادتك خلقَتْ من لا شيء كتلة اللحم التي على ذراعك إلى أنْ تكونت لديك الرغبة، واستطعتِ أنْ تنهضي مُستعينة بإحدى يديك وجلستِ على غصن ممتد فوقك.
حواء: هذه اسمها ممارسة.
الأفعى: الأشياء تبلى بفعل الممارسة: ولا تنمو بها. وشعرك يتطاير في الهواء كأنه يُحاول أنْ ينتشر مسافة أبعد فأبعد. لكنّه لا يزداد طولاً على الرغم من كل ممارسة الانتشار، لأنك لم ترغبي في ذلك. وعندما أخبرتني ليليث عمّا تخيّلتْ بلغتنا الصامتة (لأنه حينئذٍ لم تكن هناك كلمات) دعوتها إلى الرغبة فيه وإرادته، وإذا بالشيء الذي رغبت فيه وأرادته، ويا للعجب، يُخلق فيها تحت إلحاح إرادتها. ثم أنا أيضاً أردتُ أنْ أتجدَّد وأُصبح اثنتين بدل واحدة، وبعد مرور أيام عديدة حدثت المُعجزة، وانبجست من جلدي أفعى أخرى منضفرة معي، والآن أصبحت هناك مُخيّلتان، ورغبتان، وإرادتان أستعين بها لكي أخلق.
حواء: الرغبة، التخيّل، الإرادة، الخلق. هذه قصة طويلة جداً. اختصريها كلّها بكلمة واحدة: أنتِ البارعة جداً في صياغة الكلمات.
الأفعى: بكلمة واحدة، هي الحَبَل. هذه هي الكلمة التي تعني معاً البداية بالتخيُّل والنهاية بالخلق.
حواء: اختصري لي بكلمة واحدة القصة التي تخيّلتْها ليليث وحكتْها لكِ بلغتكِ الصامتة؛ القصة التي كانت فائقة السحر ولا يمكن أنْ تكون حقيقيّة، ومع ذلك تحقّقت.
الأفعى: إنها قصيدة.
حواء: جِدي كلمة أخرى تختصر صِلة ليليث بي.
الأفعى: كانت أمك.
حواء: وأم آدم أيضاً؟
الأفعى: نعم.
حواء: [ وهي توشك أنْ تنهض ] سوف أذهب إلى آدم وأطلب منه أنْ يحبل.
الأفعى: [ تضحك ]!!!
حواء: [ انتفضت وأجفلتْ ] يا له من ضجيج شنيع! ماذا ألمَّ بك؟ لمْ يسبِق لأحد أنْ أطلق مثل هذا الضجيج.
الأفعى: لا يستطيع آدم أنْ يحبل.
حواء: لِمَ؟
الأفعى: لأنَّ ليليث لم تتخيّله يفعل ذلك. هو يستطيع أنْ يتخيَّل، وأنْ يُريد، وأنْ يرغب ؛ يستطيع أنْ يُلملم حياته لكي يقوم بقفزة كبرى نحو الخلق، يستطيع أنْ يخلق الأشياء كلها، ما عدا واحداً، هو خلق نوعه.
حواء: ولِمَ منَعتْه ليليث من فعل هذا؟
الأفعى: لأنّه إنْ كان في استطاعته أنْ يفعل ذلك فإنَّ في استطاعته الاستغناء عن حواء.
حواء: هذا صحيح. ينبغي عليَّ أنا أنْ أحبل.
الأفعى: نعم. وبهذا يبقى مرتبطاً بك.
حواء: وأبقى أنا مرتبطة به!
الأفعى: نعم، إلى أنْ تخلقي آدم آخر.
حواء: لم أفكِّر في هذا. أنتِ شديدة الذكاء. ولكنْ إذا خلقتُ حوّاء أخرى فقد يتعلَّق بها ويستغنى عني. لن أخلق أيّة حواء أخرى، سأخلق فقط الكثير من آدم.
الأفعى: لا يستطيعون أنْ يُجدّدوا أنفسهم من دون وجود حواءات. وعاجلاً أو آجلاً سوف تموتين كما مات الخِشف، ولن تتمكن أعداد آدم من الخلق من دون حواءات جديدات. يمكنك أنْ تتخيّلي تلك النهاية، لكنكِ لن ترغبي فيها، ولذلك لا تستطيعين أنْ تريديها، وبالتالي لا تستطيعين أنْ تخلقي آدم فقط.
حواء: إذا متُّ كما مات الخشِف، فلِمَ يموت الآخرون أيضاً؟ لا يهمني هذا.
الأفعى: لا ينبغي أنْ تنتهي الحياة. هذا أوّلاً وقبل أي شيء. من الحمق أنْ تقولي إنَّ ذلك لا يهمك. أنتِ تهتمين. وهذا الاهتمام هو الذي سيحفِّز مُخيلتك؛ حثّي رغباتك: اجعلي إرادتك لا تقاوَم، اخلقي شيئاً من لا شيء.
حواء [ متأمّلة ]: لا يمكن أنْ يوجد شيء اسمه لا شيء. الجنّة ممتلئة، وليست فارغة.
الأفعى: لم أفكِّر في هذا. إنها فكرة رائعة. نعم: لا يوجد شيء اسمه لا شيء، هناك فقط أشياء لا نستطيع أنْ نراها. إنَّ الحرباء تأكل الهواء.
حواء: لديّ فكرة أخرى: يجب أنْ أخبرها لآدم [ وتهتف ] آدم! آدم! كوو-ي ي!
صوت آدم: كوو-ي ي!
حواء: سوف تسرّه، وتُخلّصه من نوبات كآبته.
الأفعى: لا تخبريه الآن. أنا لم أخبرك بعد بالسرّ العظيم.
حواء: ماذا تبقّى لتخبريني به؟ أنا التي يجب أنْ أصنع المعجزة.
الأفعى: كلا: هو أيضاً يجب أنْ يرغب ويريد. ولكن يجب أنْ يُعطيك رغبته وإرادته.
حواء: كيف؟
الأفعى: هذا هو السر الأعظم. صمتاً! إنّه قادم.
_____________________________________
[1] – الخِشف: صغير الظبي.
[2] – ليليث: في الأساطير الساميّة، هي عرّافة مشهورة شريرة، يُقال إنها كانت تأكل الأطفال وتُقيم في الأماكن المهجورة، ويقول اليهود إنها كانت زوجة آدم الأولى.
*****
خاص بأوكسجين