محاكمة الانتظار
العدد 290 | 1 تشرين الثاني 2024
بسنت أحمد


اليوم خلعتُ جسدي على كرسي بإحدى قاعات الانتظار، حلّقتُ خارج عقلي إلى عقول الصامتين المنتظرين حولي؛ أجسادهم الثقيلة ملتصقة بالكراسي التصاقاً وطيداً كأكياس لحم ألقاها صياد ورحل. تجلس قبالتي فتاة محلاة بالألوان، جسدها متوتر على نحو استفزني، أردت أن أخبرها: استرخي يا صغيرتي، أرخي يديك المتشابكتين، لا يهم أن تأخذا شكلاً مألوفاً ولا أن تجدي لهما مكاناً مناسباً!

لم تشعر بي واقفة على كتفيها المشدودتين، لم ترفع رأسها، لم تسمع ما همست لها، مواصلةً تحديقها بثبات ببلاط الأرضية الرصاصي، تريد بتحديقتها تلك إحداث ثقب فيه.

تنقلت بخفة من الفتاة منتصبة الجسد، نحو المرأة الممتلئة بجوارها، لحمها المتدلي من جوانب الكرسي جعلني أشفق على الكرسي المسكين، وجهها المترهل نحو صدرها يشير الى تعب قاتل، عقلها صامت بشكل مقلق، مَن سحب الفيشة عن تلك المرأة؟ من أهلك روحها إلى حد ذوابانها بشحمها.

بينما أتساءل عن مغزى تلك الروح المتعبة، كادت قدماي تنغرسان في كتلة اللحم على كتفيها، استخلصت قدمي منها بصعوبة، وطرت فزعة

جميع الأجساد المتعبة تحتاج يوماً على الأقل في قاعة انتظار هادئة، مستسلمة للجاذبية ومبحلقة في الفراغ الناجي من فوضى العالم الكارثي، خارج قاعة الانتظار ذات الاضاءة الخافتة.
فجأة أصبح الفراغ مزعجاً بدخول عجوز تفوح منه رائحة سجائر مختلطة برائحة الفضول، لم يبدِ رغبة في مشاركتنا الصمت، منذ اللحظة الأولى لدخوله وهو يبحث في عيون الجالسين عن رغبة ما في إصدار أي صوت، بدأ بكحكحة خفيفة ينظف بها ما استطاع من بقايا آخر سيجارة رديئة، وراح يفتح فكّه تدريجياً، يملأ حنجرته بالهواء، يا لطيف! الأحبال الصوتية نجحت بالاهتزاز، سيفعلها الرجل السخيف، لسانه يلوك حروفا، شفتاه تتقيأ جملا متعفنة على الأرضية الرصاصية، لماذا يا حاج لماذا؟
اختبأت في جيب الفتى الجالس بجوار الحاج المذنب، انه هناك منذ زمن ينظر لهاتفه بلا انقطاع، عنقه مثبتة في زاوية مؤلمة منذ ساعات، سيكتشف الألم برمته الآن عندما يمط رقبته خارج شاشة هاتفه استجابة للتنبيه الفارغ الصادر عن فم العجوز! صرير رقبته المثبتة أزعج الجميع، انتقلت الأنظار من قيء الكلام على الأرضية، صوب العنق المزعجة، اختبأت أكثر في جيب الفتى حتى لا يراني أحد الغاضبين، ولا المستيقظ من نوم هانئ يجهز مئات اللعنات لمثيري الفوضى. أصبحت الأصوات أعلى، الأقدام تزحف، الجلسات تتغير، المرأة السمينة تلملم لحمها من على الأرضية، تثبّت عينيها وخدودها المترهلة، تأخذ شكلها المعتاد، إلى أن بدت مألوفة لي!

كل تلك التحولات جعلتني أنسى جسدي الملقى على الكرسي في الزاوية البعيدة عني، بيني وبينه أطياف متحفزة الآن، تنتظر بفارغ الصبر إلقاء اللوم على شيء صغير مثلي وصب غضبها الكامن على اللعين الذي أيقظها. وعلى الرغم من حالة الانتباه والتحفز التي سيطرت على جو القاعة الهادئ، إلا أن صوتاً إضافياً كان هو القشة التي قسمت صبر المتعبين، عندما نادى الحاج على السكرتيرة القابعة خلف مكتب ضخم لا يظهر منها سوى جبهتها، تلك الجبهة البيضاء التي تلونت بالأحمر الغاضب عندما كرر الحاج نداءه، “اليوم ليس لك يا حاج، لقد أصبحت مذنباً في حق الجميع”.

انتفضت السكرتيرة بغضب من وراء المكتب. وقفتها الهائجة أيقظت فتاة صغيرة كانت لا تزال نائمة في حضن أمها، حررها صوت الغضب من نومة دفعها إليها الملل. العيون تتنقل بين الحاج والسكرتيرة، البعض يشارك في نزع الاتهامات عن الحاج المسكين، والآخرون يلقون اللوم عليه بلا هوادة، الأصوات متداخلة، أصابع الاتهام تشير بشدة نحوه، أُم الفتاة الصغيرة تشهد بأنها إحدى المجني عليهن، طالما أن الفتاة استيقظت.

بدأ الجمع الهادئ الملتف حول بعضه، يخرج تماماً عن طور الراحة. تريد الجاذبية استعادة سيطرتها على تلك الجثث الغاضبة، الفوضى تحلّق بخبث، بينما أراقب أنا الوضع من خلف جيب الفتى نفسه، أنظر الى جسدي المسكين في قلق شديد من أن تصيبه شظايا الأذرع المتحركة بلا انتباه هنا وهناك، أريد أن أحمل جسدي النائم ونهرب سويةً من العالم المجنون الذي ركض خلفي إلى القاعة الهادئة أو التي كانت هادئة.

وقف الرجل المستيقظ حديثاً في منتصف الغرفة، تمكن من تهدئة الجماهير الغاضبة عندما أخرج من قبعته حلاً عادلاً لإنهاء الجدل، أشار علينا أن نعقد محاكمة يُحاكم فيها العجوز عن مجمل أعماله، وتدان السكرتيرة كشريك في جريمة إيقاظ الفتاة الشقية. أومأ الجميع برؤوسهم ورددوا: كلام سليم، موزون، عادل بما يكفي.

وقف الحاج المذنب خلف المكتب الضخم، جميع الكراسي الآن مرصوصة أمام قفص الإتهام، جلس الجميع من جديد، تطوع الفتى ذو الرقبة المثبتة للدفاع عن العجوز، لا زلت في جيبه ما يحتم علي أن أكون في صف المتهم أيا كانت تهمته أو عقوبته، بدا الأمر حماسياً بما يكفي لأن ينسيني جسدي المكوم على الكرسي الوحيد بجوار باب القاعة، لم يهتم أحد بسلبية جسدي ولا استسلامه سوى الفتاة الشقية الماكرة، فبينما يحاكم الكبار العجوز كانت هي تلتف حول جسدي بخفة، تستكشفه بفضول، تشمشم، تفكر كيف وصل ذلك الجسد إلى هنا، من عديم الضمير الذي ترك جسده وحيداً متكوّراً؛ إنها تترقب اللحظة الملائمة لتعبث بي خلسة!

تكلم الفتى بصرامة وثبات، عن ضرورة التماس العذر للعجوز الفضولي، وأن نواياه الحسنة دفعته للحديث، حاجته ليكون مسموعاً أثارت إزعاجا غير مقصود، يجب على اللجنة الموقرة التماس كل تلك الأسباب قبل ان تبث حكماً لاذعاً، وأخذ سنّه ووحدته ومرضه في الحسبان.
لاقى منطقه استحسان الحضور، بدا العجوز خلف مكتب الاستقبال الضخم حزيناً ومريضاً، شاحباً يترقب حكماً عادلاً.

وبينما الجميع مستغرقون بالتفكير، والأحاديث الجانبية مستمرة، انقطع ذلك بصوت ارتطام جسدي بالأرض، والفتاة اللعينة راضية بفعلتها، متحدية لأمها. أصدرتُ شهقة مرتعدة: يا بنت الكلب!
هب الجميع يسندوني. صفعت الأم فتاتها، نهرتها بغضب وقد ضاقت ذرعاً بها.
نفضت الفتاة الملونة عني التراب، مسحت عن وجهي وملابسي عناء الارتطام، وقَفت بجوار جسدي، ووجّه الجميع أنظارهم نحو الفتاة الصغيرة الباكية. أمر الرجل المستيقظ حديثاً الذي ترأس المحكمة بزجها في قفص الاتهام ذاته، وهكذا أصبحت الفتاة وراء القضبان إلى جانب العجوز والسكرتيرة، والضوء مسلط على وجوههم الحزينة.

فارقت كل ذاك الغضب، عدت الى جسدي، نزحت عن جيب الفتى الذي ينصر المظلوم، عدتُ إليَّ، وبات كل عضو في مكانه، جسدي سليم معافى كما تركته، فقط بضعة آلام بسيطة دفعتني إلى الاستناد على الكرسي حين هممت بالخروج، تاركة خلفي الجنون المتصاعد للمحاكمة الأبدية، والصيحات تتعالى مطالبة بشنق المذنبين.

*****

خاص بأوكسجين


كاتبة من مصر