شرٌ في حقيبتي
العدد 290 | 1 تشرين الثاني 2024
آية الجلبي


لم أخبر أحداً عمّا وضعه الجندي في حقيبتي الوردية، وكأن الأمر برمته لم يحدث. إلا أنني لا أزال وبعد مرور أكثر من عشرين عاماً، أتذكر ذلك اليوم بكامل تفاصيله.

تبدأ حكايتي مع أول يوم مدرسي ذهبتُ وعدتُ فيه بمفردي. أمسكت أمي يدي وراحت ترسم مربعين متباعدين وخطاً يربطُ بينهُما:

-هذا البيت وهذه المدرسة. امشي في هذا الخط وستصلين لكليهما بكل سهولة.

-وماذا لو أردت أن أزور سوسَن؟ هل سيوصلني نفس الخط؟

-لالا، ستكون هناك خطوط أخرى لاحقاً.

عانقتني. ولسبب ما، رافقني شعور ذلك العناق دون غيره؛ أحسست بأنني سأغفو لو طال أكثر.

كان طريقاً سهلاً كما وصفته أمي بالضبط. في الأيام الأولى، ركّزت بشدة في طريق الذهاب والعودة. لم أكن ألتفتُ لشيء، أمشي من مربع إلى آخر كما رسمت أمي. ثم رويداً رويداً، أخذت الأشياء تتضحُ أمامي، والعالم يتبدّى مليئاً بحيوات كثيرة أخرى. عند خروجي من البيت، كان عليّ عبور الشارع إلى الجهة المقابلة، حيث يطالعني محل للتصوير الفوتوغرافي تديره إحدى نساء الحيّ. ثم تتلاصق الكثير من البيوت بمختلف أحجامها. وعند نهاية الشارع يرتفع بيت ضخم بابه مطليّ باللون الفضيّ، لطالما ظننا نحن الأطفال بأنه بيت ملعون، ففي الظهيرة تنعكس أشعة الشمس على الباب مما يدفع الناس لتجنب المرور أمامه أو تغطيه أعينهم من بريقه. بعد ذلك تنتشر مساحة رملية واسعة فارغة تماماً، إلا أنها تمتلئ بالناس في المناسبات. في الأعياد يتم تنصيب مراجيح حديديّة وأكشاك لبيع الحلوى والألعاب. كما تقام فيها أعراس سكّان المنطقة. وفي الصيف لطالما اتّخذها الأولاد ملعب كرة القدم. بعد الساحة هناك محالات لبيع القرطاسية المدرسية والحلوى. كان محل عمّو جليل الأعور المكان المفضّل لطلاب مدرستنا، فقد كان مواكباً لكل ما هو جديد، دفاتر مدرسية جميلة وأقلام كالتي نشاهدها في الإعلانات وأدوات مدرسة ذات خدع يتبادلها الطلاب بينهم. من نافذة المحل تبدو المدرسة قريبة للغاية.

تغيرت الكثير من هذه التفاصيل بعد الاحتلال الأمريكي للعراق 2003، إذ أغلق محل التصوير، ولم يعرف أحد مصير أصحابه، أما الساحة الرملية ففي البداية اتخذها الجيش الأمريكي موقفاً لمدرعاتها، ثم بُنيت فيها مولدة كهربائية تابعة لأحد سكان المنطقة، كما صار بعض الناس يرمون نفاياتهم فيها. المتبقي الوحيد منها كان طريقاً ضيقاً يفضي إلى المدرسة. وحده باب البيت الفضيّ بقي على حاله.

لم تطل فترة ذهابي وعودتي بهذا الطريق بمفردي طويلاً، فقد انتقلت ابنة خالتي سوسَن إلى مدرستي، ورغم أنها في الصف الثامن الإعداديّ، أي تسبقني بصفّين، إلا أننا كنا نترك زملاء وزميلات صفّينا للتمشي سوية في أوقات الاستراحة. كنا نبدو ونتصرف أكبر من عمرينا على أيّة حال. كانت عظام فكّي ووجنتي سوسَن بارزتين مما يعطيها طابعاً جديّاً. أما وجهي فكان ناعماً وعيناي واسعتان بشكلٍ ملفت.

-سمعتُ فتاة من الصف التاسع تقول لصديقاتها أن تناول النستلة يكبّر ثدييها. لقد جرَّبت ذلك بالفعل.

قالت لي سوسَن في إحدى أوقات الاستراحة.

لم أكن أعرف، كما لم تكن سوسن تعرف، كيف تشكَلت كل تصوراتنا عن الجسد وأن منحنياته هي حدودنا الماديّة في هذا العالم. كنا نحيلتين للغاية، وللمفارقة كانت والدتانا بدينتين، إلا أن أم سوسن قررت اتباع حمية لإنزال وزنها. كانت تلك الفترة لا تحمل سوى هذه الحوارات بين أمي وخالتي: تناول البيض المسلوق، الخضروات والابتعاد عن السكر والحلويات …. أما أبي وأبو سوسَن فلم يخوضوا هكذا حديث سوى لمرة واحدة، وبدا لي حينها أن الرجال ليسوا من هواة تكرار الكلام. حينها كنت أشعر بالحسرة أن جسدي لا يكبر ويتوسّع مثل أفكاري وملاحظاتي، فقد كنت أظن حينها أنني أفهم وأتذكر كل الأشياء.

بعد تلك المحادثة في الباحة، قررنا أن نجرب ما قالته فتاة الصف التاسع.

ومثل جميع الذين على وشك بدء الحياة، لم يكن لسوسَن ولا لي أي إحساس بالزمن. كنا نريد الأشياء أن تحدث حالاً.

فور خروجنا من المدرسة توجهنا إلى محل عمّو جليل الأعور واشترينا بجزء من مدّخراتنا نستلتان ورحنا نلتهمهُما فوراً وتوادعنا ببهجة. كنا على يقين أن فور استيقاظنا صباحاً سنحظى بثديين مكورتين.

في المساء، كانت أمي ترتدي ثوباً بلون الأخضر الباستيليّ وعليه نقوش ورود بلون الخّردَل. كان للثوب تموّجات غير مألوفة بسبب اكتناز جسدها. رغم أنها كانت بدينة كما كانت خالتي أحلام تقول، إلا أنني رأيت أنه من الرائع أن يكون حجم الإنسان كبير، ولو أني ارتديتُ هذا الثوب لما بدا رائعاً عليّ،  بل كان سيبدو مثل قطعة قماش يرتديها الهواء.

في الصباح، كان كلا وجهينا متجهمين. لم يحدث شيء. لكن سوسن قالت أن علينا أن نعيد الكرّة.

-ربما فتاة الصف التاسع لم تقصد نستلة واحدة! ماذا لو أنها تناولت أكثر من واحدة؟

قلتُ ورحنا نقلّب الفكرة. ولم يطل الأمر كثيراً حتى قررنا أن نشتري علبة كاملة ونقتسمها فيما بيننا.

في اليوم التالي، أخرجت من حصّالتي الكثير من النقود وكنت متوجّهة لأجلس على الأرضية ريثما تمشّط أمي شعري. كنت متوتّرة. ماذا لو عرفت؟ ماذا سأجيبها؟ بالتأكيد لا يجب أن تعرف أمي عن هذا الأمر.

أثناء تمشيطها لشعري لمحت أمي بقعة شوكولا على ياقتي وكمّ قميصي الأيسر. تذمَّرت وأمرتني بتبديل القميص قبل الخروج. فعلتُ ذلك مسرعة وكل ما أفكّر فيه هو ألّا اتأخر على لقائي بسوسَن. أثناء خروجي ألقيتُ نظرة على أمي، كان ضوء الشمس قد جعل ثوبها الأخضر الباستيليّ يبدو أجمل مما رأيته من قبل.

خرجت مسرعة. لم أنتبه لأطلال محل التصوير ولا البيت الفضيّ الملعون ولا الساحة. لكن قبل أن أصل محل عمّو جليل الأعور كانت هناك دورية تفتيش للأمريكان. كان بإمكاني أن أرى أن سوسَن تقف عند باب المحل وتشير إليّ بأن اُسرع. مشيت بخطوات مسرعة والحقيبة تتأرجح بيديّ. لم ارتدها على كتفي ذلك اليوم حرصاً على مدخراتي ولكن يبدو أن حملي لها بهذا الشكل أثار ريبة جنود الدوريّة. صرخ بي أحد الجنود أن أتوقف، فتوقفت، لا بل إن قدماي وقفتا تلقائياً، فقد كنت مسكونة بالفزع من هؤلاء الجنود وقصصهم المخيفة، وأنا أجدهم تماثيل حجريّة متحرّكة لا تعرف الرحمة: رجال ضخام لا أرى منهم سوى وجوههم، ملابسهم مغبَرة ولونها واحد متسق مع لون مدرعاتهم.

مدّ أحد الجنود يده المغطاة بقفّاز ضخم وأمرني أن أريهِ الحقيبة. ناولته إياها وراح يزنها بيده. كانت حقيبتي ورديّة اللون عليها صورة لحذاء بنفسجيّ لامع عالي الكعبٍ. مرّر الجندي الحقيبة لزميله الذي فتحها وراح يفتّش بها. لم أكن أفهم شيئاً مما يقولون. وسيطر عليّ شعور العجز. مدّ الجندي الذي كان يفتش الحقيبة يده إلى حقيبته العسكرية وأخرج شيئاً ما ووضعه في حقيبتي. ولأن الكف الذي يرتديه كان ضخماً فلم أتبيّن ما وضعه. أعاد الحقيبة وأشار إليّ أن أواصل طريقي.

لطالما سمعتُ عن قصص المتفجرات الي يوزّعها الجنود الأمريكان للأطفال أوالألغام التي يرمونها في الطرقات كألعاب، وبمجرد أن يتم لمسها أو فتحها تتفجر بشكلٍ عنيف. كنت خائفة وحاولتُ حبس دموعي.

دخلتُ إلى محل عمو جليل الأعور وليس في بالي سوى أن أرى سوسَن. تحرّكتُ في المحل باحثة عنها. كان عمو جالساً ينظر إليّ ويتناول شيئاً ما من الصحن أمامه.

-ما الذي وضعه الجندي في حقيبتك؟

كانت عيناي معلقتان على حبل للعب مرسوم على مقبضيهِ دمية باربي.

-لا أعرف.

-أنا سأقول لكِ. لقد وضع قنبلة. قنبلة صغيرة جداً.

ثم واصل:

-حقيبتك لا تزال خفيفة، أليست كذلك؟

كان الخوف قد تملّك كل حواسي فلم أعد متأكدة من أي شيء.

-ما رأيك أن تعطيني إياها بدل أن تنفجر وتموتين؟

-ولكن هذا يعني أنك ستموت!

أخذ قطعة أخرى مما يأكل ثم قال:

-أنا؟ لا يمكن. أنا لا أموت. ها هي عيني اليمنى فارغة ولكن لا يزال بإمكاني أن أرى. ولو انفجرت حقيبتك سيكون لا يزال بإمكاني أن أبقى على قيد الحياة. هيا ناوليني إيّاها.

تشبّثتُ أكثر بالحقيبة.

-يبدو أنك لا تصدقيني. دعيني أريكِ عيني لتتأكدي.

راح يزيح عن عينه اليمنى الجلدة التي تغطّيها. ما أمكنني رؤيتهُ وأنا اتراجع خارجةً، أن محجرعينه كان فارغاً وتظهر من خلالها ألسنة لهب تتحرك داخل رأسه.

خرجتُ من المحل نحو المدرسة. كانت حنجرتي تؤلمني، حاولت لمسها فكان الألم كما لو أن أحدهم قد لكمني هناك. كنت قد تأخرتُ كثيراً ولن أدخل الدرس الأول. وعزائي أن صاحب الحانوت المدرسي أبو فرح أدخلني إلى الباحة لأنتظر الدرس الثاني.

كانت الشمس حارقة. فكرتُ بباب البيت الفضيّ الملعون، بالتأكيد ستكون مضيئة للغاية الآن. تمشيتُ حتى باحة المدرسة الخلفيّة حيث الشجرة الكبيرة. واصلت المشي حتى المقعد الخشبيّ في زاوية الباحة. وضعتُ الحقيبة بحذر على الأرض وحين فتحتُ أصابعي كانتا تؤلمانني للغاية، لشدّة ما قبضتُ على الحقيبة. رحت أبكي بحرقة. هل سأجلس هنا بجانب هذه الحقيبة إلى الأبد؟

كانت أشعة الشمس تلتمع على الحذاء النفسجي على الحقيبة. تحسستُ ثدييي. لم يكونا قد كبرا بعد! خيّم الصمت على المكان على غير العادة ولم يصل إلى سمعي سوى صوت غربان بعيدة. أما في عقلي فقد كان هناك الكثير من الأشياء التي أفكّر بها. ماذا لو أني فتحت الحقيبة ورأيت ما وضعه الجنديّ؟ ربما سأموت! هل يجدر بي دفنها أم رميها في ساحة النفايات؟

هل لو انفجرت الحقيبة ستختفي وأختفي أنا؟ أم أننا سنصير جزءاً من النفايات والطين والقصص ثم نتشكّل بهيئات أخرى؟

هل تختفي الأشياء فعلاً؟ أم تخرج من حيّز حياتيّ إلى حيّز حياتيّ آخر وهكذا بشكل لا نهائيّ؟

كانت تلك المرة الأولى التي أحسست فيها بحاجة إلى معرفة الوقت، وكأن الزمن أمر غريزيّ تحرك داخلي. ما الساعة الآن؟ ومتى ستنتهي الحصة الأولى لأرى سوسن وأحكي لها ما جرى؟ شعرت بالجوع دون أن أتمكن من الوصول لعلبة الغداء في الحقيبة ولا للمال الذي خبأتهُ فيها. لم يكن لدي سوى ملابسي وحذائي وربطة شعري المموّج.

رحتُ أعدّ الأشياء التي أرتديها ثم أخذتُ بعدّ شبابيك المدرسة، وكانت جميعها تعكس أشعة الشمس فلم اتمكن من رؤية أي مما يجري في الداخل. إحدى النوافذ عكست غيمة صغيرة، بدت لي للوهلة الأولى كومة قطن داخل أحد الصفوف. ثم فجأة انقضّ غراب على حقيبتي وطار بها إلى أعلى الشجرة الكبيرة. لستُ أنكر أنني شعرت براحة لبضع ثوانٍ قبل أن تعاودني المخاوف، فالحقيبة لم تختفِ بل ابتعدت قليلاً.

لم يكن أمامي سوى خيار أن أصعد الشجرة، فرحت أتأكد من متانة كل غصن قبل أن أتشبث بهِ؛ شيئاً فشيئاً وصلتُ أعلى الشجرة. لم أكن قد انتبهت من قبل أن الأغصان كثيفة ملتفتة بأعلاها كما لو أنها سجادة، ومن منتصفها يواصل الجذع ارتفاعه، إلى أن تتدلى من نهايته أغصان كثيرة فتبدو وكأنها مظلّة.

كان الغراب يقف بجانب عشّه حيث رمى حقيبتي. لم أرَ غراباً بهذا الحجم من قبل، كان يعادل نصف جسدي تقريباً. لم أعرف حينها ما عليّ فعله. وقفت متشبثة بالجذع ورحت أنظر للغراب والحقيبة التي مزّقها وأفرغها في العشّ. كانت قدماي ترتعشان ورحت أتحدث مع الغراب:

-لن اؤذيك. أريد أن استعيد أشيائي.

ثم خطوت نحو العش. فتح الغراب منقاره وجناحيه وراح ينعق. أكاد أجزم أن نعيقهُ يردّد: لا..لا.

أعدتُ الكرّة:

-أريد أن أستعيد أشيائي فقط. لن اؤذيك.

قلتها وأنا أهزّ نافية برأسي. لم يجبني هذه المرة.

وقفتُ هناك لبرهة ثم رميتُ بجسدي داخل العُش. أخذ الغراب يصيح بالطريقة ذاتها. كانت الحقيبة فارغة تماماً وكل أغراضي – التي أعرفها – مخلوطة مع أغراض أخرى سطا عليها. ثمة أقلام وأغطية علب البيبسي وخواتم، وكريات صغيرة متنوعة الألوان ومبلغي المالي مبعثراً وشريط علكة نصف متبقي وقطعة زجاج مكسورة وعلبة حمراء صغيرة تحمل صورة لنمر وبطاقة عليها صورة نظارات طبية وعلبة غدائي وقد تبعثرت فوق الأشياء. لم يسعني رؤية كل شيء. ثم شرع الغراب بنقري. لم أشعر بألم كهذا من قبل ورحت أحمي وجهي بيديّ. ظننتُ للحظة أنني سأموت هنا وسيحتفظُ بي مع هذه الأشياء.

وجراء الضجة التي أحدثها نعيق الغراب وصراخي، هرول عمو أبو فرح وزوجته وصعد مع مكنسته الخشبية لطرد الغراب.

أخذاني لاحقاً إلى الحانوات وراح يعقم الجروح التي تسبب بها الغراب. كانت أم فرح تضع طرف حجابها الطويل على فمها وتبكي بدون أن تصدر صوتاً.

-ما الذي أخذكِ إلى عش غراب يا ابنتي؟

قال عمو أبو فرح.

كنت أنظر إلى عينيه المركزتين في تعقيم جروحي. كانت حركته بطيئة إذ ينقل يده مني إلى علبة الأدوات أما يده الأخرى فقد امسكني بها بقوة وكأنها تمنعني من السقوط عن الطاولة. اجلتُ بنظري بالمحل. لم تتغير هذه البضائع منذ أن ارتدت المدرسة لأول مرة؛ كيس الشيبس بطعم الفول السوداني ولوح الشوكولا ذا اللون القرمزيّ. انهم لا يتوقفون عن إنتاجها. كانت هناك أسفل طاولة البيع علبة حلويات صغيرة، يبدو أنها ليست للبيع بل تخصه وزوجته، وكان عليها صورة لكأس حليب منسكب. حدّقتُ فيها طويلاً، حتى كدتُ أغفو.

وهكذا بدأت حياتي الراشدة…

*****

خاص بأوكسجين