في الرابع من حزيران/يونيو من عام 1994، وبعد ما يقرب الـ 12 ساعة من انتهاء عمليات تصوير فيلم “ساعي البريد” توفي الممثل ماسيمو ترويزي، بعد أن زرع جزيرة “ايسلا نيغرا” طولاً وعرضاً على دراجته وهو يوصل بريد الشاعر بابلو نيرودا، مجسداً شخصية ساعي البريد ماريو خيمينث في دور لن ينسى، ومات ولم يتجاوز الواحدة والأربعين. كل من شاهد الفيلم أو سيشاهده سيعرف كم بذل من قلبه فيه حتى خلص إلى هكذا أداء استثنائي! لقد أتعب قلبه المتعب أصلاً، هو الذي كان بحاجة ماسة لعمل جراحي، إلا أنه أجّله لحين فروغه من الفيلم.
أجدني أبدأ مع ترويزي، كمفتتح لدخول عوالم الروائي التشيلي أنطونيو سكارميتا سينمائياً، هو الذي توفي في 15 أكتوبر الماضي، على شيء من مزج الواقعي بالروائي بالسينمائي، في محاكاة ربما لمقدمة سكارميتا لرواية “ساعي بريد نيرودا”، وهو يربطها بواقعه ومسيرته الأدبية، مستعيداً الفترة التي كان فيها محرراً ثقافياً في صحيفة من الدرجة الخامسة، يحلم وهو يعمل في مكاتبها الرطبة بأن يصبح كاتباً، ويؤلف روايات لا يلبث أن يتخلى عنها في منتصف الطريق. حينها كلّفه مديره بمهمة تتطلب منه “مداهمة السلام الساحلي للشاعر بابلو نيرودا” في جزيرة “ايسلا نيغرا”، وإجراء لقاء معه يتناول فيه “الجغرافية الغرامية للشاعر”، والحصول منه، كطموح شخصي، على تقديم لمخطوط رواية يعمل عليها، لكن نيرودا شتت شمل تلك الجغرافية الغرامية بالقول “إن حبه الكبير الوحيد هو زوجته الحالية ماتيلدي اوروتيا”، وأجاب طلبه بكتابة المقدمة “بسخرية تستحقها فعلاً وقاحتي في الطلب منه كتابة مقدمة لكتاب لا يزال غير موجود وهو يدفعني نحو الباب” قائلاً: “سأكتب لك المقدمة بكل سرور ولكن عندما تنتهي من تأليف الكتاب”. كتب سكارميتا روايته “ساعي بريد نيرودا” بعد 14 عاماً على ذلك اللقاء، من دون أن تمت بصلة للرواية التي طلب من نيرودا تقديمها، لكن ثمة تشابه بينه وبين ماريو خيمينث، أو من أهداهم الرواية؛ أي منتحلي أشعار نيرودا البائسين!
علي القول قبل المضي في استعراض الأفلام الثلاثة التي اقتبست عن “ساعي بريد نيرودا”، إن آخر فيلم منها، والذي أنتجته “نتفلكس”، وجاء بعنوان “صبر متأجج” Ardiente Paciencia (2022)، لا يستحق العناء، فهو مجرد فيلم تلفزيوني سطحي، أكتفي باختزال تقديمه، بعبارة من قبيل “نيرودا يجمع رأسين بالحلال” أو أي شيء يحيل إلى الابتذال.
غواية سينمائية
تحتكم “ساعي بريد نيرودا” على غواية سينمائية بلا أدنى شك، والقصة قائمة على ثلاثة أقانيم هي الشعر والحب والعدالة، وهي قادرة تماماً أن تكون كوميدية وتراجيدية، رومانسية وسياسية، خيالية وواقعية، في آن معاً، كما أنها مختبر عظيم لشعر بابلو نيرودا وهو يوضع في كل تلك السياقات، فساعي البريد لا يريد فقط أن يتعلم كتابة الشعر ويكسب قلب بياترث، بل هو منحاز لكل ما يمثله نيرودا من قيم ومطامح وتطلعات سياسية بوصف ماريو بروليتاري، فقير ومضطهد ومهمّش، وبالتالي يؤمن بنضالات الحزب الشيوعي التشيلي وسلفادور الليندي، وليقدم سكارميتا كل ذلك من دون أي نتوءات أو شعارات أو انحرافات أو إملاءات من خارج الحبكة، بل في سياق قصة حب ماريو لبياترث أولاً وأخيراً، مضافاً إليها علاقة الأول بنيرودا، وبالتالي الشعر وهو يظهر في الفيلم متجسداً، بينما تجد الاستعارات مرادفاتها في المكان والحياة، وتمسي عاملاً درامياً في تطور الشخصيات ومصائرها.
سكارميتا مخرجاً
مع رواية “ساعي بريد نيرودا” التي صدرت طبعتها الأولى بعنوان “صبر متأجج” Ardiente Paciencia اقترف سكارميتا فعلاً شديد الجرأة سينمائياً، ألا وهو أن يخرج فيلماً معتمداً على رواية من تأليفه، فيا لها من شجاعة! فكما هو متعارف عليه، أو مختبر ممن هو روائي ومهووس بالسينما، فإن إقدام روائي على كتابة سيناريو مستمد من رواية من تأليفه أمر شديد التعقيد والصعوبة، وغالباً ما يتجنبه الروائي، فكيف بروائي يخرج فيلماً مأخوذاً عن روايته!
فيلم سكارميتا يعود بنا إلى عام 1985، ويصلح أن يكون مختبراً لما أوردته عن المصاعب التي تواجه الروائي في نقل روايته إلى الشاشة الكبيرة، ولعل أول ما سيطالعنا في الفيلم أن سكارميتا يَفترض معرفة المشاهد للشخصية كما يعرفها هو، فهو لا يؤسس لشخصية ماريو، ولا لملابسات تواجد بابلو نيرودا في جزيرة “ايسلا نيغرا”، بل يضعنا ومن اللقطة الأولى حيال ماريو ممتطياً دارجته في طريقه إلى مسكن نيرودا، ويمضي قدماً بنسج العلاقة بينهما، أي ساعي البريد أو الصياد السابق الذي تخلى عن الصيد ليعمل موصلاً لبريد الشاعر الكبير، وليتواصل سرد الفيلم في تنقلات سريعة في أحداث الرواية؛ حب ماريو لبياتريس من النظرة الأولى، ترشح نيرودا للرئاسة، ونحو ذلك مما يدفع للشعور بأننا حيال اختزال سينمائي أكثر من كونها معالجة سينمائية للرواية، لكن هذا يتغير على نحو لافت مع زواج ماريو من بياترث، حيث يمسي إيقاع الفيلم متناغماً، وزمن اللقطات مضبوطاً، وكذا تنويعاتها، وصولاً إلى أداء الممثلين، سواء أوسكار كاسترو مقدّماً شخصية ماريو أو روبرتو بارادا مجسداً نيرودا، وخروجهما عن الرتابة التي تهيمن على أدائهما في نصف الفيلم الأول، كما لو أن ابتعادهما عن بعضهما وتواصلهما عن بعد، حرر الفيلم من الحوار، ووضعنا حيال جمالية بصرية مع تغير حياة ماريو مع ما سيشهده من ولادة ابنه بابلو، والانعطافات السياسية التي ستشهدها تشيلي مع مقتل سلفادور الليندي.
ساعي البريد الإيطالي
مع فيلم “ساعي البريد” Il Postino ستخلَّد رواية سكارميتا سينمائياً (فاز بأوسكار أفضل ممثل في دور رئيس لماسيمو ترويزي وقد منحت له رغم وفاته وأفضل موسيقى مع ترشيحه لأوسكارات أفضل فيلم وإخراج وسيناريو مقتبس)، وتتحول إلى تحفة سينمائية، على يد المخرج الإنجليزي مايكل رادفورد الذي عُرف حينها بفيلمه “1984” عن رواية أورويل الشهيرة. سيأخذ رادفورد رواية سكارميتا إلى إيطاليا، إلى جزر صقلية ونابولي، وبفعله ذلك سيضع الفيلم في سياق السينما الإيطالية، وهذا هو بحق فضاء الرواية الحيوي، وهكذا سيكون ماريو أشبه بأنطونيو في فيلم فيتوري دي سيكا “سارق الدراجة” (1948)، لا بل إنني حين شاهدت أداء ترويزي أحسست أنه مثل لامبرتو ماجوراني في فيلم دي سيكا يقف أمام الكاميرا للمرة الأولى، كما كان متبعاً في كاستينغ الواقعية الإيطالية الجديدة، ولتشكّل الدراجة عنصراً درامياً في كلا الفيلمين، وليظهر إلى جانب ترويزي الممثل الفرنسي العظيم فيليب نواريه، من جسد شخصية ألفريدو في “سينما بارديسو” (1988)، ولعل الرسالة الصوتية التي يرسلها ماريو إلى نيرودا وهو يسجل له أصوات الجزيرة من أمواج البحر وشبكات الصيادين، نجد لها شبيهاً في فيلم جوزيبه تورناتوري، أي كل اللقطات التي كان يحذفها قسيس القرية من الأفلام، فإذا بألفريدو محتفظ بها جميعاً كهدية يتركها لسلفادوري بعد وفاته.
مسرحية وروايتان
بعد التجربة الإخراجية اليتيمة لسكارميتا، فإنه على ما يبدو اكتفى بها، حتى أنه لم يكتب للسينما مباشرة، بما في ذلك فيلم بابلو لارين “لا” No (2012)، المقتبس عن مسرحية له لم تنشر ولم تقدم على الخشبة، وعالجها الكاتب بيدرو بيران، لنكون حيال فيلم سياسي متصل بتاريخ تشيلي الحديث، والاستفتاء الذي دعا إليه بينوشه بعد 15 سنة من حكمه، مقدماً حكاية مخرج الإعلانات رينيه (غايل غارثيا برنال)، الذي ينتقل من إعلانات مشروب غازي اسمه “فري” (حر) بوصفه مثالاً على الحرية والشجاعة، إلى إدارته وإخراجه حملة حاسمة تقول “لا” لبينوشه، مستخدماً فيها كل مهاراته الإعلانية والترويجية، الأميل للترفيه والكوميديا في ترجيح قول “لا” على “نعم”، مبتعداً عن المباشرة وتصوير فظائع بينوشه، متخذاً أسلوباً مغايراً تماماً، عن الأساليب التقليدية للمعارضين والاشتراكيين.
ليست أهمية هذا الفيلم ماثلة في توثيقه فقط للحظة التاريخية التي ستفضي بالنهاية إلى إجبار الجيش لبينوشيه على التنحي، بل في كونه فيلماً غنائياً راقصاً توثيقياً تاريخياً في آن معاً، بالإضافة إلى تجاور المعارضة مع الموالاة، والقدرة على الاختلاف والتوافق في الوقت نفسه، فنحن نشاهد رينيه يواصل العمل مع مديره في الحملات الإعلانية التجارية، بينما يدير الأخير حملة “نعم” لبينوشه.
أما فيلم “رقصة النصر” El Baile de la Victoria (2009)، إخراج فرناندو تروبا، والمقتبس عن رواية بالعنوان نفسه لسكارميتا، فيضيء على تشيلي ما بعد بينوشه، حيث انعدام الفرص، والعفو عن اللصوص، وذلك من خلال ثلاث شخصيات رئيسة، مجرمان أطلق سراحهما من السجن، وعلاقتهما مع راقصة خرساء تحيل إلى من أخمدت أصواتهم في حقبة بينوشيه، والعفو عن اللصين مساحة للإقدام على سرقة كبرى!
وآخر الأفلام التي اقتبست عن نوفيلا لسكارميتا هي “أب سينمائي”، أخرجه البرازيلي سيلتون ميلون وجاء الفيلم بعنوان “فيلم حياتي” O Filme da Minha Vida (2015)، ولعل من قرأ النوفيلا وشاهد الفيلم، ستستوقفه المعالجة السينمائية المدهشة التي قام بها سيلتون، واتخاذه من علاقة الأب والابن محوراً أساسياً في تكوين الأحداث والسرد، وكيف صنع سلسلة أحداث من عبارات وتوصيفات على اتصال بالأب ترد هنا وهناك في النوفيلا، فالأب فيها مستعاد وقد هجر زوجته وابنه وتركهما في قرية صغيرة نائية في تشيلي وعاد إلى بلده فرنسا، فإذا بابنه الوحيد يصادفه في قرية أخرى يعمل عارض أفلام في صالة سينما، ويعطيه تذكرتين لحضور فيلم جون وين ودين مارتن “ريو برافو”، ونحو ذلك من أحداث عابرة يجري تطويرها على نحو لافت في ذلك الفيلم الجميل.
*****
عن اندبندنت عربية