«كلاب المناطق المحررة»/ تجريب ما بعد حداثي في بلاد العبث الضاري
العدد 232 | 08 حزيران 2018
عزت عمر


ماذا بوسع الروائيّ فعله؟

لعلّ الشاعر والروائيّ المبدع زياد عبد الله أراد أن يتحدّى نفسه ويتجاوز ذاته كروائي وشاعر، إن لم نقل يتحدّى أنداه ممن كتب روايات عن ثورات “الربيع العربي”، فقدّم لقارئه هذا النصّ البديع بما اجترحه من لغة ساحرة وخيال فائق توشّى بأسلوب ما بعد حداثي مبتكر حقق ما اصطلح النقاد عليه بـ “شعرية الرواية” لغة و إخباراً وثقافة بصرية أحالت الحكاية إلى نصوص أو مشاهد متناغمة متصلة ومنفصلة في آن، ولا يعرف القارئ من أين تبدأ أحداثها وأين ومتى تنتهي، وإنما أشبه بشريط سينمائي شغّال دونما توقّف، تدخل الصالة وتتفرّج على أحداث تعرض فد تكون رأيتها للتوّ حادثة في الحيّ أو الشارع الذي تقطنه، بل ربّما رأيتها معروضة ومكررة في التلفزة، عن قصف متواصل بالراجمات والطائرات على أنواعها، بالصواريخ المجنّحة منطلقة من بارجات (أبو علي بوتين) أحياء مهدّمة بالكامل وشوارع محفّرة وقتلى تنتشر جثثهم في المكان وكلاب شاردة ومهجّرين ينطلقون إلى المجهول في نلك المناطق التي كانت تسمّى بلاداً، يحتلّها الجنود والدواعش وأمراء الحرب الآن، حواجز وقناصة يقتلون الناس بادعاء الحرص على حياتهم، فيغدو من المستحيل اجتيازها ما لم تكن شبحاً حقيقياً: “الجنود ينظرون إلى السماء، يدعوني أمرّ من دون أن ينظروا إليّ. توقّفتِ القذائف، “الميغ” على عُلُوّ منخفض، تُرجِّفُ الأرض، تفتكُ بالهدوء، واحدة، اثنتان، ثلاث. بَدَتْ كما لو أنها ترافقني، تُحرِّضني على أن أزيدَ من سرعتي.”

طيور قماشية

شخصيات الرواية حاضرة أبداً عبر سارد متماه بمرويه، هو بدوره شاهد وضحية، يقدّم باستمرار ودونما انقطاع حكاياته ضمن فصول معنونة (مونولوغ، كلاب، قبر مفتوح، كرات التنس المستطرقة…) وهكذا نلتمس الشخصيات ذاهبة وآيبة في زمان قريب يمكن أن الروائي عرفها وعايشها بنفسه أو نعرفها نحن، إذ ربّما هي شخصيات كانت بيننا حتّى وقت قريب مثل إبراهيم عازف البيانو وحسّان ونجدت ونجوى وهدى؛ هدى التي قُتلت ثم طار العصفور القماشي المخاط إلى ثوبها، ليرافق القارئ رحلة القراءة الممتعة لحبيبين تجمع بينهما طيور قماشية قد تغدو رمزاً للحرية المغدورة بعدما أرداها قنّاص، أو علامة لحبّ جمع بين حبيبين في هذا الظرف الاستثنائي:  “أقسم بأنه طار من ثوبها حين تعرّت، وبقي يحوم قرب السقف وأنا أتلقّط مساماتها.”

ومثل شبح نجدت الذي لا نعرف من أين جاء ولماذا، ثمّ ما دوره في هذه الرواية الذاهبة في العبث واللامنطق منذ بدايتها وحتّى منتهاها، عبث وحشي مستمد  من الواقع، ولا بدّ في مثل هذه الحال من التعبير عنه بلغة وخيال يوازيانه من حيث الفانتازيا المدهشة لأحداث نقرأها كما لو أننا مازلنا حاضرين في الفيلم السينمائي نفسه!

“كان نجدت ينتحب في حضنكَ، وكنتَ جالساً على رأس طاولة الصالون المترامية، وعلى جبهتكَ لاصق أسود، ينزل مائلاً على عينكَ اليمنى وصولاً إلى وجنتكَ، محدّقاً بثبات بالباب، كما لو أنكَ وحدكَ لا تسمع نحيباً ولا نعيقاً.

استقبلتَني بابتسامتكَ. بادلتُكَ الابتسام. انتقلتَ إلى الضحك حين رأيتَ اللاصق، فصرتَ تضحك، وصارت ضحكاتنا تمتزج ونحيب نجدت، الذي انتفض كالملسوع، وصار يصرخ مخاطباً إيّاي:

– سيموت، سيموت!

وأنا كنتُ مأخوذاً باللاصق الأسود، وقلتُ لكَ:

– متْ، وسأضعه على صورتكَ!

كائنات نبّاحة

عن إبراهيم عازف البيانو الذي نفى أن يكون من سكن داره كلب وإنما “كائن تبّاح”، وربّما من هذه اللحظة السردية سيدخل الروائي من بوّابة “كلاب المناطق المحررة” المشرعة والغامضة إلى حدّ المباشرة المؤدلجة، لكن الأمر في حقيقته ليس  محدداً بكلاب بعينها أو بمنطقة محددة، فالعبارة شاعت كثيراً وتباهى بها المتقاتلون وأنصارهم من الطرفين، وقد غزتهم أو استوطنتهم “نزعة” أو “حمّى” أو ربّما مرض غامض اجتاح المناطق كلّها بعدما استفحلت الحرب وتخندقت الناس هنا أو هناك، فتسرّبت الكلاب من أثير الإذاعة ووسائل الإعلام على حدّ تعبير الشارد: “يُحكى أن كلّ مَن استمع إلى الراديو حينها نالَهُ من الكلاب نصيبٌ، وصار كل كلب يركب موجة قصيرة أو طويلة عبر الأثير، ليصلَ إلى مستمع على هيئة ذبذبة، فيسكنه، وكانت وتيرةُ عواء كل كلب من الكلاب مرتبطةً بما يرغبه المستمعُ من الحياة.”

وهذه “الحمّى” قد تشبه حالة السعار التي تسببها الحيوانات المريضة بـ “داء الكَلَب” فلا يهدأ عواؤها لحظة، تهاجم الناس وتصيبهم بعدواها.ـ ربّما أشبه بأفلام “الزومبي” السينمائية نلك التي ينهض فيها الموتى لقتل الأحياء أو من تبقّى منهم، والأمثلة التي يوردها الروائيّ كثيرة عن (الزومبي) النبّاحين!

“إنها في كل مكان، تتخاطف كلّ ما تقع عليه، تتسافح في الأبنية المهدّمة والردم والخرائب والمجارير المفتوحة.. على أسطح الأبنية الناجية، في الشوارع والأزقّة، تعضّ وتنهشُ الأحياءَ والأموات.”

عن القناص أبو المجد الذي تنتابه الحمّى الكلبية كلّ حين فلا يهدأ حتّى يملأ المعبر جثثاً لعابرين من بسطاء الناس، يغريهم بكلّ دناءة برمي بعض الأطعمة ليلتقطوها فيصطادهم، وينافسه في الطرف الآخر قنّاص يلقّب بـ “ميسي” اللاعب المشهورـ وعن الصبيين نجوان و برهان اللذين فقدا أمّهما منذ عشرين يوماً ولا يعلمان أنها قتلت، وهما الآن عالقان في جوف حافلة في الطريق بانتظار من يخلّصهما. طفلان في الخامسة والسادسة أصاب أحدهما القناص في رجله، وكانا يظنان انه بوسع ألعابهما التي في المنزل إنقاذهما: “كان نجوان مطمئنّاً على البيت حين فارقه، فهو بحماية ألعابهما، ولم يقبل توسّلات برهان بأن يحضرا معهما سبايدرمان وباتمان، فهو كان على قناعة مطلقة بأن “دبدوباً” وردياً وحفنة عساكر بلاستيكية لن يستطيعوا الدفاع عن بيتهما، وقال لبرهان بحزم: يجب أن يبقى السوبر هيروز في البيت. وقال في نفسه إنهم الوحيدون القادرون على حمايته، وليكتشفَ، حيث هو قابع الآن، بأنه كان على خطأ، وأنه بمساس الحاجة لسوبر هيرو أو أيّ بطل خارق، ليُنقذه وأخاه.”

ومضات جمالية

هذا غيض من فيض الحكايات عن رحلة الشقاء اليومية للشخصيات برفقة الموت، تموت في قصف أو قنص، تموت انتحاراً من اليأس الضاري، ثمّ تعاود أشباحاً أو عبر ذاكرة السارد غير المنظمة، والسارد بالمناسبة شاعر يلحّن إبراهيم قصائده و تغنيها نجوى وهدى في المستشفيات للجرحى والمصابين، والروائي كذلك شاعر ومهتمّ بالسينما، ولا غرابة إذا أن نلتمس بحثاً جمالياً في بلاغة الاستعارة وبراعة توظيف المفارقة غير المتوقعة لترتقي بالنصّ إلى مستوى عال من الشعرية الني لابدّ أن تمسك بتلابيب قارئها فلا تتركه لحظة حتّى تنتهي أحداثها.

“أعدتُ تشغيل موسيقا باغنيني، الكمان يحزّ رأسي، كما لو أن عصاه مغروزة فيه، وهي تمضي جيئة وذهاباً، فيخرج اللحن. ما من شيء جنائزي، ما من معنى في أن تكون موسيقا الكمان الشّاقّة آخر ما سمعه في حياته. هل الموت نزوة، يا إبراهيم؟ هل الموت مقطوعة لآلة واحدة؟ لماذا الكمان، يا عازف البيانو؟ “

ليس للقتلة مؤيّد أو نصير..

عن تولستوي و بيكاسو وشولوحوف المبدعين الكبار الذين أدانوا الحرب في أعمالهم العظيمة طوعاً لا كراهة: “الحرب والسلام، الدون الهادئ، جرنيكا” وعن شباب الرواية والمسرح في الخمسينات والستينات الذين شهدوا وخبروا آثار الحرب الفظيعة ومدى انعكاسها على حياة الناس: كافكا و كامو وبيكيت ويونسكو وكلّ ذلك الازدحام عن فلسفة الانتظار والإشارات باتّجاه “غودو” المخلص الذي لايأتي..

في رواية زياد عبد الله ليس ثمة مخلّص أو “غودو”، وإنما يأس ثلجي كلّي أغلق المنافذ والأبواب ثمّ هدم بناية البجعة وأغلق الحارات بالحواجز والقناصات ولن تستطيع المرور مالم تكن شبحاً يعود إلى الحياة كلّما عصفت به الأشواق كحال سارد الرواية وهدى وطيورها القماشية وسلّمه الموسيقي ” أخرجتْ من جيبكَ منديلاً مرسوماً عليه سلّم موسيقيّ، نظرتْ إليه، ثمّ مسحتَ دموعها. دنوتَ منها أكثر، قبَّلتَها، همستَ في أذنها مشيراً إلى المنديل المبتلّ بين يَدَيْها:

– اصعدي هذا السّلّم الموسيقي! إيّاكِ أن تنظري إلى الأسفل..”

وهذا ما بوسع الروائي فغله.

 

اسم الكتاب

كلاب المناطق المحررة

اسم الكاتب

زياد عبدالله

الناشر

منشورات المتوسط 2017


كاتب وناقد من سورية.