(“نهايات معطلة”، نصوص، منشورات المتوسط، سلسلة براءات، إيطاليا ــ 2015، فراس سليمان ـ شاعر سوري مقيم في نيويورك)…. ربما لأنني سوريّةٌ وقفتُ أطول مما يجب عند عبارة “شاعرٌ سوريّ”، كأنها جملةٌ شعريّةٌ أولى في ديوان. عمّ سيكتب لنا شاعرٌ سوريّ مقيمٌ في نيويورك؟!
باشرتُ قراءةً أولى، استطلاعية، الكتاب موزعٌ على قسمين: “خيمة بثقوب كثيرة”، و”يوميات رجل القبو”. مقطوعةٌ أولى (الزهور التي جلبها زوجي أمس/ لها رائحة رقّة ما بعد الخيانة. “زوجة من سويسرا”).، وتكرّ تأملات عامل الكازية الباكستاني، والضابط الصربيّ والساحر الكاميروني، والراعية التشاديّة، ثم الكحولي من الكونغو يقول: “الوطن أيضاً عادةٌ سيئة!”. أتوقف هنا أيضاً طويلاً؛ لماذا الكونغو دون سواها، ولماذا الكحولي؟! أنا مثلاً من سورية، وأنا صاحيةٌ وغير ثملة، وأنا أتفهّم الآن أن الوطن عادتي السيئة تماماً كما يفكر الكحولي. إذاً نحن على اختلاف جنسينا وبلدينا ووعيينا نتفق على فكرةٍ غير مألوفة أن الوطن عادةٌ سيئة. وقد نتشابه كثيراً بدءاً من لحظات التجلّي إلى صغائر الأشياء. وما الهويّة التي منحها الشاعر لصاحب كلّ مقطوعةٍ إلا شرشفٌ شفيفٌ لا يفصل بين كائنين بشريين بقدر ما تجمع بينهما ألفة الهموم الواحدة..
عند القراءة الثانية بدا أنني سأحتفظ بالديوان قريباً من مطال يدي، ومعه سأتدرّب على التفكير بطريقةٍ مختلفة. فراس لا يكتب عن حاضرنا، ولا عن حقبةٍ ما، ولا عن شعبٍ ما. إنه عينٌ تدور على بلاد الدنيا وتعود لتكتب عن خلوة الإنسان إلى نفسه، عن كلّ مَن يحمل قلباً يكتفي بنفسه لا ترفّعاً، إنما لأنه أضعف من أن يجاري عالَماً خَرِباً، (ألوذ إلى عتمتي/ إلى التصاقي بي/ ألوذ إلى العزلة التي خربتني حين أرى خرابكم..). (جارتي العجوز التي تعيش مع ابنتها المعاقة تشبه علاقتي مع الكتابة)، (أحس ثم أصف ثم أخطئ ثم أعمىً ما/ يصدّقني).
ولو انكفأ مبدعٌ إلى وحدته ـ رفيقته، هل تراه ينجو من توهانٍ يحاول الاحتيال عليه بالكتابة؟ يبدو أنه لا براء منه، ندم معه، ندم صحبته، ندمٌ هجرُه، ندم قصوره عن التعبير حتى لو حاولنا:
(اللغة في أقصاها خلاخيل)
(الكتابة كلحظة إطلاق رصاصةٍ في رأس حصانٍ مسنّ لا فائدة منه/ الكتابة حصانٌ مسنّ…/ حيٌّ أبداً/ وليس من رصاصٍ ناجعٍ ليرديه.)
(هم في وسائل نقلهم السريعة سيصلون إلى المكان الخطأ/ هو في عزلته/ يختبر المكان الخطأ. “عجوزٌ وحيد”).
أقرأ وأسأل نفسي: لماذا يصرّ الإنسان على الفهم؟ من قد يهتم؟
في النصوص عالمٌ آخر، حيٌّ ومستقلٌّ يمور حولنا، وقلّةٌ من يلحظونه. قراءة هذي النصوص إحدى المفاتيح الطيّعة لاستكناه هذا العالم الذي ليستْ نهاياته وحدها معطلة، بل وتعطّل معها المتن والنهايات كلها. ليستْ عطالة اللغة أو المعاني، بل ربما تعطيل كلّ مفهومٍ سائد، وإعادة خلقه عبر اللغة: (عليك أن تكون ابن اللغة الأرستقراطية/ أو الخادمة التي تنظف الصحون/ عليك أن تكون يتيماً). وعبر مدخلٍ تجريبيٍّ إلى الحياة: (هم يذهبون إلى ما يشبههم/ أنت تذهب إلى ما لا يشبه شيئاً/ ولأن أحداً لن يصل/ لربما ستلتقون على مفترقٍ ما..)
لغة فراس سليمان كثيفةٌ؛ هذه المقطوعة مثلاً أشبه برواية: (الضفتان للغرب/ الذي يجري جثثٌ ونظريات). تأتيك بالفكرة من زاويةٍ فضفاضة، توقظك من غفلة التفكير الجمعي المنمّط، تُوقظ الانتباه إلى ما لم تكن تنتبه، إلى وجهة نظرٍ أكثر منطقية من تلك التي كنتَ تكتفي بها (النضوج أن تحب أوهامك/ أن تدافع عنها/ لن أنضج). وتعيد النظر في المسلّمات: (الذين يربحون دون أن يقامروا؛/ المجتهدون،/ كم نجاحاتهم بائسة!..). وتبلبلك: (فكرة رائعة ألا تكون عبداً حتى للعدالة)، وتخيفك مما يعرّيك أمام نفسك: (كل هذا الخواء صنعه الرجل الواقف على المنصة/ كل هذا الموت يؤكده هؤلاء الذين يصفقون..). وتُحفّزك حين تُريك نفسك في مرآةٍ غير مرآتك الغافلة: (بخياراتٍ حمقاء/ يمكنك إنجاز حياةٍ شديدة الإثارة..)
في نصوص سليمان تسبح الموسيقى في المعاني لا في المفردات الشعرية، يلجأ للاستعانة بتكرار حروف العلة ليعلو الصوت، ليتّضح، ليصبح مسموعاً حين يخلق موسيقاه من امتداده: (رغم كل هذا وذاك لن أنتحر/ فما زلت أحلم أن أموت في حادث سيارة/ أنااااا أقودها. “امرأة سعوديّة”).
أتى ختام النهايات المعطلة بجملةٍ سرديّة رائقة: “كسلي.. مهارات طفلٍ متوحّد.”
ترى؛ هل اجتهادنا، كلنا، أعمق أثراً من كسل فراس؟!
لن تُستوفى نصوص فراس سليمان بقراءة واحدة أو بمقالٍ في صحيفة. كل مقطع رواية قصيرة مفتوحة النهاية أو مبتورتها أو غامضتها أو…، لماذا أبحث عن كلمة؟! إنها في العنوان: نهاياتٌ معطلة!!
اسم الكتاب
نهايات معطلة
اسم الكاتب
فراس سليمان
الناشر
منشورات المتوسط