الصورة Out of Focus يسمع صوت صفارة، هناك أشخاص أمامنا لا نتبينهم ثلاثة أو أربعة، وها هو واحد منهم يقترب منا، لقد صار أمامنا الآن، إنه شاوول – كما سنعرف لاحقاً – اللقطة “كلوز أب” لبروفيل وجهه، ثم الكاميرا من الخلف تتبعه وقد ظهرت علامة “اكس” حمراء على معطفه، وها هي الكاميرا تعود مجدداً إلى وجهه “كلوز أب”. اللقطة خارجية ومتواصلة ما من قطع، وهناك من صرخ “وقوف” وها هو شاوول يرفع يديه مستسلما، ثم يواصل المشي، وجهه ظاهر في الصورة وبشر كثر يمضون معه مشكلين خلفية لوجهه، الأصوات المرافقة دامغة وهو يواصل مسيره، إلى أن تُقطع اللقطة بشاشة سوداء بعد أن استمرت خمس دقائق.
لقطة داخلية ثانية تمتد لما يقرب الثلاث دقائق، وجه شاوول والأدق رأسه من الخلف واضح بينما البشر خلفية له وهم عراة، ثم إنهم يحشرون في مكان ما وتوصد عليهم الأبواب وتتصاعد ضرباتهم على الأبواب وما من مجيب، السواد على الشاشة مجدداً وعنوان الفيلم يظهر عليها “ابن شاوول” Son of Saul أو العنوان الأصلي في البلغارية Saul Fia.
يوقظ هذا الفيلم الذي أخرجه لازلو نيمتش في أولى تجاربه الروائية الطويلة تساؤلات كثيرة عن ماهية السينما كوسيط واقعي وقدرتها على الإيهام سواء المعرفي منه أو الإدراكي، كما أنها توقظ تلك الأسئلة التي لا تغيب عن الخط الواهي بين الروائي والوثائقي، رغم أن “ابن شاوول” أولاً وأخيراً فيلم روائي!
يتناغم في فيلم نيمتش (أوسكار أفضل فيلم غير ناطق بالانجليزية 2016 والجائزة الكبرى في مهرجان كان 2015) ما نشاهده في الكادر مع ما هو خارجه: الأصوات، الصرخات، الأوامر، الأحاديث، الخبطات على الأبواب، كل هذا لا نراه بل نسمعه، لكنه فاعل ومؤثر جداً، ولترافقه مع الصورة التي أمامنا أن يحدث تنبيهاً كبيراً للحواس، لا بل إن ما نشاهده من نتف هذا الفيلم الكابوسي يتصدره غالباً رأس شاوول، فنحن نراه ونرى ما يراه مشوشاً موزعاً هنا وهناك، سريعاً وخاطفاً وموجزاً، كما لو أن عملية المشاهدة فعل لملة لكابوس يتنامى على الشاشة ويترامى، كابوس يمتد ليومين هما زمن الفيلم الافتراضي.
هناك جثث عارية تجرجر على الأرض بينما شاوول منهمك في فرك الأرض يزيل عنها بقع دم وقيء وكل ما يخلفه البشر حين تعرضهم لحفلة موت جماعي، هناك أوامر باللغة الألمانية تستحثه، وهو إن تكلم فسريعاً وخلسة، لكن ومع تتابع أحداث الفيلم تتسع الرؤية أو تتضح وتبدو الجثث فاقعة والمقتلة مترامية، وما تأسس في البداية يمضي حثيثاً نحو الاتساع بما يجعلنا حيال مساحات لها مقاسات الجحيم، وقد تمت صياغة خط درامي يلملم ما أوقعنا عليه شاوول وروّعنا به.
يتأسس “ابن شاوول” على الوثيقة طالما أنه يتناول ما جرى تناوله سينمائياً مراراً وتكرراً أي المحرقة النازية لليهود في الحرب العالمية الثانية، ولعل السؤال الذي يطل برأسه يقول لنا وما الذي سيضيفه على عشرات الأفلام؟ ما الذي سيضيفه على رائعة سبيلبيرغ “قائمة شندلير” 1993؟ وهي أسئلة متعلقة بالموضوع لا أكثر “الهولوكست اليهودي” وعدا ذلك فإننا حيال مقاربة مختلفة تمامًا عما سبقها، فمع سبيلبيرغ تحديداً تمضي عملية إعادة بناء الواقع بما يجعل الإيهام قادماً من الوقائع وبناء الفيلم الملحمي وصراعات الشخصيات ونجاح شندلير في مهمته النبيلة، أما شاوول فهو الشاهد/الضحية وهو أيضاً الشخصية/الأداة التي يتمحور حولها الفيلم، ونحن في صدد تعقبه وتلقط ما يشهده بما يجعل حاضره كافياً تماما لتوثيق مأساته، فهو شخصية لا ماضٍ لها، إلا في سياق ما يلفقه لكي يصنع مستقبلاً، أي حين يدّعي أن لديه ابن لا لشيء إلا ليخلق وهماً وحيداً لا ثاني له، بما في ذلك وهم نجاته الذي لا وجود له، ففي هذا الفيلم الكابوسي لا معنى للنجاة أيضاً.
كل ما تقدّم يؤسس لحالة معايشة يخضع لها المشاهد مع فيلم “ابن شاوول” بما في ذلك اللقطات الطويلة (زمن الفيلم 107 دقائق موزعة على 85 لقطة) والحيز المكاني والزماني الذي تتحرك فيه المشاهد وتطابق اللقطة مع المشهد وبؤرها العميقة، وهي أدوات تشبه أكثر معايشتنا للحياة بما يحقق اندماجنا مع الفيلم، وتأتي قصة الفيلم الرئيسة كتحصيل حاصل في هذا السياق، فهي ببساطة تتمثل ببقاء طفل على قيد الحياة بعد حفلة قتل جماعي في غرفة غاز، وليقدم ضابط ألماني على خنقه، وعليه فإن شاوول سيسعى لتحقيق هدف نبيل وحيد وأخير، يتمثل بالسعي لدفن هذا الطفل – مدعياً أنه ابنه – بشكل لائق والبحث عن رجل دين يقيم المراسم اللائقة بجثته التي نجح بسرقتها وإخفائها لتحقيق هذا الغرض، كآخر ما عليه القيام به وسط بحر الذل والخزي الذي يضرب به، فهو في النهاية ليس إلا جثة تسير على قدمين.
ينمو الجحيم ويترسخ جنباً إلى جنب مع هذا المسعى، والأجساد تحرق ما لم تخنق، بينما يرمى برمادها في النهر، ونجاح شاوول في مسعاه من عدمه بالنسبة للطفل لا يشكّل رهاناً ولا عاملاً تشويقياً، إنه سفر خروج يفضي ولا يفضي!
يدفعني فيلم “ابن شاوول” إلى التساؤل عن الخط الفاصل بين الروائي والوثائقي، وهذا قادم – كما أعتقد – من التلقي، بمعنى أن التفريق بين الروائي واللا روائي مسألة تلقي! بما يدفع على سبيل المثال إلى استعادة الاعتقاد بالرأي القائل بأن “كل الأفلام وثائقية” من دون نفي صحة مقولة أن “كل الأفلام روائية”، وتطبيق ذلك على فيلم لازلو نيمتش يقودني إلى الاعتقاد أن إعادة بناء واقع “المحرقة” بالاتكاء على الوثيقة يولد ذلك من خلال الرهان على المعايشة، وعلى نقل ما يعتبر واقعاً من خلال الأثر الدامغ الذي يحدثه بالمتلقي، وفي هذا ما يليق بمعاينة المآسي الإنسانية والمجازر وشتى ما انتجته الوحشية في الحروب والصراعات.
ففداحة المآسي ووحشيتها تنتج واقعاً تصارع فيه المخيلة الإنسانية الإبداعية، وغالباً ما تتفوق عليها بأن يكون هذا الواقع متخطياً للخيال، وما نعيشه حالياً في عالمنا العربي وتحديداً في سورية أو العراق واقع له أن يضع المخيلة الفنية في مآزق كبيرة، فالوثائقي لا يكفي ليكون حاملاً للواقع ولا الروائي الذي يكتفي بتقديم الرواية الموازية للخبري، أو إعادة بناء الواقع بالاتكاء على الوثائقي، فمع هكذا جنون يتطلب الأمر الاشتغال على الشكل بما يمحي الحدود بين الروائي والوثائقي وينتج آلية سردية تحقق هذه المعايشة طالما أن المقتلة حوّلت الضحايا أرقاماً يومية مجردة، ومشهد الجثث لا يستدعي ممن يتناول فطوره إيقاف لقمة في فمه، وهذا بالتأكيد يمتد ليشمل ضحايا ضحايا “الهولوكست” في فلسطين.