كارلوس زافون والطموح العظيم لروايات القرن الـ 19
العدد 262 | 04 كانون الأول 2020
زياد عبدالله


 

تستغرق المسافة من العبارة الافتتاحية “لن أنسى أبداً ذلك الصباح الذي اقتادني فيه والدي إلى مقبرة الكتب المنسية.” إلى الختامية “وبعد قليل، يتلاشى طيفهما كالبخار، ويمتزج الوالد وابنته بالزحام الذي يفيض في لاس رامبلاس، وتذوب أصداء خطواتهما إلى الأبد في متاهة الأرواح”، تستغرق أكثر من 2500 صفحة، وهي رحلة القارئ المحفوفة بالمفاجآت والمنعطفات والدروب المتشعبة مع أجزاء رباعية “مقبرة الكتب المنسية (وهي على التوالي: “ظل الريح” 2001، و”لعبة الملاك” 2008، و”سجين السماء” 2011، و”متاهة الأرواح” 2016) للكاتب الإسباني كارلوس زافون الذي توفي في 19 يونيو الماضي 2020 عن 55 عاماً. نقل الرباعية إلى العربية ببراعة المترجم السوري معاوية عبد المجيد، وصدرت الأجزاء الأربعة عن منشورات الجمل تباعاً في 2016 و2017 و2019 و2020.

ولعل وفاة كائن قصصي مثل زافوان – مهما كبر حجم الرباعية – تفتح الباب على مصراعيه أمام تساؤل على شاكلة: وماذا يا سيد زافوان عن الحكايا التي لم تروها بعد؟ لمن تركتها؟ ولعل أي منغمس في عوالم زافون في رباعيته تحديداً، ستتعدد إجاباته، وله أن يستمدها من عوالم الكتب الأربعة، مع إجبار نفسه على استبعاد دافع إنساني أصيل متمثل بـ “الطمع”، طمع القراء الذين أخذوا بسحر سرد زافون على امتداد كل تلك الصفحات، فرواياته تلك من النوع الذي ما أن يمسكها القارئ حتى لا يتركها إلا وقد أجهز عليها، حزيناً لأنها انتهت، سائلاً عن المزيد، وباحثاً عنه، فكل شيء في النهاية هو حكاية -كما يرد في “لعبة الملاك”- “كل معتقداتنا وعلومنا وذكرياتنا، بل أحلامنا.كل شيء هو حكاية، وسرد، وتسلسل أحداث وشخصيات تعبّر عن وجدانها العاطفي، إن الإيمان ناجم عن التسليم بحكاية تروى علينا. نحن لا نسلّم بحقيقة أي شيء إلا إذا كان قابلاً للسرد.”

تتأسس رباعية “مقبرة الكتب المنسية” على روايات وفية تماماً لمبدأ تشارلز ديكنز ( أو كارلوس ديكنز كما يتلفظ باسمه ديفيد مارتن في صغره حين يهديه سمبيري الأب نسخة من “آمال عظيمة”) في سرد الرواية “اجعلهم يضحكون. اجعلهم يبكون. اجعلهم ينتظرون.” فهي على صعيد التلقي الشعوري للقارئ تجعله يدور في فلك ثالوث وصفة ديكنز السردية، وفيها ما فيها أيضاً من واقعية ديكنز وغرائبية شخصياته، وسطوع ما تأسست عليه من خصال داخلياً وخارجياً، ولها أن تكون من لحم ودم تارة، أو أنماطا أو حنى مخلوقات قد تشوهها الحروق، أو كائنات متوارية خلف قناع أو صاحبة يد خشبية كما في روايات الكسندر دوما. نكتشف الشخصيات جراء أفعالها، فهي ليست معنية بأن تتعلم أو تتغير، وليس لها أن تتأمل بل أن تمضي إلى خلاصات مكثفة تأتي في سياق الحكاية. إنها شخصيات شديدة الحركية، تطارد لغزاً عجيباً يستدعي الحل، ومصائر مغيبة وغامضة تتطلب التحلي بحصافة المحقق، وبالتالي فإنها تنتقل من اكتشاف إلى آخر،  ولتتعدد المواقف والمآزق، ومعها القفزات الزمنية عبر العودة في الزمن والتقدم به، عبر الاستعانة بالتواريخ بعيداً عن “الفلاش باك” أو تقنيات سردية مشابهة.

كما أن للشخصيات الرئيسة أن تلتقي في كل زاوية أو زقاق من برشلونة بحكاية أو شخصية عابرة، مما يعزز من القيمة التوثيقية للمكان، أي برشلونة التي يجد زافون في النمط المعماري الباروكي ضالته بما يتناغم مع الأجواء الغامضة والألغاز التي تنتظر الحل، حيث نقع على قصور مهجورة أو مسكونة بالأرواح منها على سبيل الذكر لا الحصر قصر عائلة آلدايا في “ظل الريح” الذي يشهد أحداث الفصول الختامية، وصولاً إلى البيت الذي يسكنه ديفيد مارتن في “لعبة الملاك”، أو مكتب المحامي سوبونثيو فاليرا الذي يُصنف بناؤه الباروكي “كواحد من عجائب الدنيا السبع، أو كإجهاض شيطاني، أو كعمل لفنان مجنون تلبسته أرواح عالم الغيب.”

وقبل المضي أكثر في عوالم رباعية “مقبرة الكتب المنسية” دعونا نستعين بكلمات كارلوس زافون، للإضاءة على ماهية ما قدّمه فيها، إذا يقول في اقتباس من جريدة الغارديان “إن ما فعلته كان الأخذ بما هو بالغ الأهمية بالنسبة إليّ، والمتمثل بالطموح العظيم الذي حملته روايات القرن التاسع عشر، لكن عبر السعي إلى تطوير تلك الروايات الضخمة، مثل روايات تولستوي وديكنز وويلكي كولينز، وفق كل ما وهبنا إياه القرن العشرين من عناصر سردية، سواء عبر السينما، أو الوسائط المتعددة أو الأنماط الروائية والسردية عموماً، لخلق تجربة قرائية مكثفة للقراء.”

ويضيف، بعد صدور “متاهة الأرواح” آخر أجزاء الرباعية: “لقد نجحت في تحقيق ما حلمت به في النهاية.” واصفاً رباعيته بـ “كتب عن عوالمي الداخلية، عن الكتابة والقراءة، فقد كنت راغباً باستكشاف العملية الإبداعية لسرد القصص، وليساعدني ذلك في فهم الكثير من الأشياء عن نفسي، ولا أعلم إن كنت أصبحت أكثر حكمة، إلا أنني أشعر بسلام داخلي.”

في الاقتباسين السابقين توصيف حصيف يبنى عليه البحث في مصادر ودوافع زافون، وبما يتيح دخولاً مستنيراً إلى غابة زافون السردية، توصيف بورخيس حيث غابة السرد “حديقة تتداخل دروبها، وحتى وإن كانت لا تتخللها الدروب، فسيكون في مقدور أي كان أن يرسم لنفسه مساراً والذهاب يمين تلك الشجرة التي صادفها أو يسارها.” إلا أن هذه الدروب مع زافون واضحة لا تستدعي الاستعانة بالأشجار أو غيرها من علامات تتبع السرد، حتى وإن كانت متشعبة، إلا أنها منظمّة برصانة، ولمسير القارئ فيها أن يكون رحلة تشويقية تنطلق من السر أو اللغز ألا وهو “مقبرة الكتب المنسية”، وبالتالي فإن غابة زافون السردية محتكمة على سحر السر/اللغز، “هذا المكان سرّ يا دانيال، إنه معبدٌ، حرم خفي. كل كتاب أو مجلد هنا تعيش روح ما. روح من ألّفه وأرواح من قرأوه وأرواح من عاشوا وحلموا بفضله.” هذا ما يسمعه دانيال من والده حين يأخذه إلى مقبرة الكتب المنسية.

هذه المقبرة مكتبة بورخيسية، “مكتبة غير متناهية (..) القاعات المسدسة هي شكل ضروري للفضاء المطلق أو لحدسنا بالفضاء.” كما يرد في قصة بورخيس “مكتبة بابل”، لا بل يمكن القول  إن الهيكل العام للرباعية هو هيكل بورخيسي يدور في فلك الكتّاب والكتب والمكتبات والقراء وأمناء المكتبات، بحيث تنسج الأحداث المشوّقة بناء عليها، فعناوين الأجزاء الأربعة هي عناوين روايات ضمن الروايات تشكل عملية البحث عنها أو عن كتّابها أو كيفية تأليفهم لها، وصولاً إلى مصائرهم، البنية الأساسية للإطار العام للأحداث. وتلعب أحياناً “مقبرة الكتب المنسية” دوراً مفصلياً في حل الألغاز، وإماطة اللثام عن الأسرار، كما هي المكتبة في رواية أمبرتو إيكو “اسم الوردة”، التي توصف بـ “متاهة كبرى، وهي علامة على متاهة العالم. تدخل إليها ولا تعرف هل ستخرج منها”، كما أن أهميتها مفصلية في حبكة الرواية إذ إنها منبع الحكاية والموضع الذي يحل فيه لغز الجرائم المتسلسلة التي تطال رهبان ذلك الدير.

يخبرنا اسحاق حارس “مقبرة الكتب المنسية” أن من يعرفونها لا يتعدون المثة شخص، ويقول دانيال “لا أحد يعلم بدقة كم عمر هذه المكتبة أو من الذي بناها، و ما يسعني قوله لك هو أن أكرر ما قاله لي والدي: عندما تغلق إحدى المكتبات أبوابها أو تتلاشى، ويضيع كتاب ما في غياهب النسيان، نحن، الأمناء على هذا المكان، نجد له طريقة كي يصل إلى هنا.”

ينتشل دانيال في “ظل الريح” من غياهب النسيان سالف الذكر، رواية “ظل الريح” لخوليان كاراكاس، وليشكّل هذا الاختيار منبع أحداث متوالية، سواء عبر تتبع مصير كاراكاس، وحل ألغاز كثيرة، بما فيها مصير كاراكاس نفسه! أو من خلال البحث عن الذي يقوم بحرق رواياته أينما وجدت، ولتكون النسخة التي استعادها دانيال من المقبرة هي آخر نسخة من رواياته؟ وهكذا تمضي الرواية في سرديات متعددة لحيوات كاراكاس، في حبكة بوليسية يتحول فيها دانيال إلى محقق سرعان ما يتماهى مع ما عاشه كاراكاس، وقصة حبه لبياتريز تمضي جنباً إلى جنب مع تكشّف ملابسات قصة حب كاراكاس لبينلوب، وحب ميغيل بوليتر لنوريا، وحب هذه الأخيرة لكاراكاس، ومعها ملاحقات المحقق الشرير خافيير فوميرو لدانيال وفرمين وكاراكاس.

في “لعبة الملاك” يهدأ إيقاع الأحداث المتسارعة في “ظل الريح”، ويكون الراوي ديفيد مارتين راوياً  لقصته وهي تمضي قدماً، ابتداء من تحوله إلى كاتب لسلسة قصص بوليسية بعنوان “ألغاز برشلونة” في صحيفة “صوت الصناعة”، وتأليفه روايات بوليسية بعنوان “مدينة الملاعين” باسم إغناثيوس سامسون  المستعار تحقق نجاحاً هائلاً لا تحظى به روايته “خطوات السماء” التي ينشرها باسمه الصريح، فيأخذ بنسخة منها ليدفنها في “مقبرة الكتب المنسية” التي يخرج منها برواية بعنوان “النور الأبدي” والتي تأتي بالتزامن والتناغم مع طلب أندرياس كوريلي منه تأليف ديانة جديدة!

ويشكل السجن (قلعة مونتريك) وهرب فرمين روميرو دي توريس منه الجزء الأكبر من رواية “سجين السماء”، فبعد مفتتح الرواية عن استعدادت فيرمين للزواج من برناردا ونحن في عام 1957 يطالعنا الفصل المعنون “عالم الأموات” الذي تجري أحداثه في عام 1939 وفيرمن معتقل سياسي، ومعه ديفيد مارتين، في رحلة عذابات وأجواء كابوسية تجعل النجاة من الموت في ذلك السجن أكثر من معجزة، وذلك بإشراف مدير السجن ماوريسيو فايس، الشخصية المحتكمة على كل موبقات التسلط والخبث، إضافة لطموحه الأدبي، وهو “شأنه شأن الأدباء المفتقرين إلى الموهبة، كان في أعماقه رجلاً عملياً بقدر ما هو مغرور.” وهنا لا تظهر مقبرة الكتب إلا في النهاية، حين يأخذ دانيال فيرمن إليها ليدفن هذا الأخير كتب ديفيد مارتن فيها، فإذا بإسحاق يفاجأه بمصير مارتن ومخطوط روايته “لعبة الملاك” محفوظاً في المقبرة، إضافة لرسالة من مارتن إلى دانيال يخبرها فيها عن أمه المتوفاة ايزابيلا سمبيري.

في “سجين السماء” تحضر البنية التاريخية وحقبة حكم فرانكو لاسبانيا بالنار والحديد، ولعل الخلفية التاريخية للأحداث لا تحتفظ بكونها خلفية فقط، لا بل إن معاينة ذلك جيداً سيدفع للخلوص إلى أن ما شهدته اسبانيا من حرب أهلية وصولاً إلى فاشية فرانكو وتوليه مقاليد الحكم  أمر أساسي في مصائر الشخصيات في الأربع أجزاء،  فشخصية مثل خافيير فوميرو ينتقل من صفوف الجمهوريين والاشتراكيين إلى الفاشيين ليصبح وحشاً ضارياً ينهش رفاق الأمس، يجسد الشر الخالص، ومثله ماوريسيو فايس “أعظم الرجال في إسبانيا الحديثة التي بعثت من الرماد،” هو الذي تولى إدارة سجن مونتريك وتولى تعذيب الكتّاب والمثقفين فأصبح وزيراً للثقافة.

سيشكل لغز اختطاف فايس في “متاهة الأرواح” الحدث الرئيس، بعد تعرفنا على ما جابهه فيرمينح ين عودته إلى برشلونة، وتعرض برشلونة لقصف عنيف بالطائرات، أثناء زيارة فيرمين لامرأة تدعى لوثيا يكتشف أن فوميرو اعتقلها. تضيع ماليثيا ابنة لوثيا جراء هربها من القصف، لوثيا نفسها التي ستتولى أمر التحقيق باختفاء فاريس، هي التي انتهت حياتها متشردة وسارقة بعملها مع بارغاس الضابط بأمن الدولة أو شيء غامض من هذا القبيل. تمضي ماليثيا في بحثها عن فايس معتمدة  على رواية “متاهة الأرواح” لفكتور ماتايكس، والتي تعثر على نسخة فريدة منها في مكتب فاريس، وتتحول إلى معبر إلى قصص كثيرة أخرى، في أكبر أجزاء الرباعية.

—————

نشر المقال في العدد 22 – أغسطس 2020 من مجلة “الناشر الأسبوعي”

اسم الكتاب

كارلوس زافون

اسم الكاتب

مقبرة الكتب المنسية

عدد الصفحات

2500

الناشر

مشنورات الجمل


كاتب من سورية. مؤسس مجلة أوكسجين ومحترف أوكسجين للنشر. صدرت له العديد من الروايات: "سيرة بطل الأبطال بحيرة الانكشاري ومآثر أسياده العظام (1984 هـ)" – (2019)، و"كلاب المناطق المحررة" (2017)، و"ديناميت" (ط1: 2012. ط2: 2018)، و" برّ دبي" (ط1: 2008. ط2: 2018). وله في القصة القصيرة: "سورية يا حبيبتي" (2021)، و"الوقائع العجيبة لصاحب الاسم المنقوص" (2016). كما صدر له شعراً: "ملائكة الطرقات السريعة" (2005)، و"قبل الحبر بقليل" (2000). من ترجماته: "محترقاً في الماء غارقاً في اللهب-مختارات من قصائد تشارلز بوكوفسكي" (2016)، و"طرق الرؤية" لجون برجر (2018)، و"اليانصيب وقصص أخرى" لشيرلي جاكسون (2022). وله أيضاً كتاب مختارات من التراث العربي بعنوان "الإسلام والضحك- نواضر الخاطر في كل مستطرف باهر" (2018)،  و"لا تقرأ هذا الكتاب إن لم ترَ من السماء إلَّا زرقتها" (2023) الصادر عن محترف أوكسجين للنشر.