ثمة امرأة منقبة في حضنها طفل رضيع، تارة تجلس على ضفاف بحيرة، وأخرى تسند ظهرها إلى جذع شجرة في غابة تساقطت فيها أوراق أشجارها إلى أن غابت أرضها من كثافة الأوراق المصفرة على أديمها، وليمسي ظهورها وغيابها ومنولوجها لازمة فيلم المخرج الأذري هلال بايداروف “احتضار” In Between Dying (المسابقة الرسمية في الدورة الأخيرة من مهرجان فينسيا وفاز بنجمة مهرجان الجونة البرونزية) وإيذاناً بتوالي فصول رحلة داوود.
يخاطب داوود (أورخان اسكندرلاي) تلك المرأة بوصفها زوجته والطفل طفله، إلا أن ذلك سرعان ما يبدو عالماً موازياً لرحلة بحثه عن الحب، مطمحاً أو افتراضاً يمارس فيها داوود تأملاته من خلال امرأة يفترض أنها قد تكون زوجته، لا بل إن الطفل سرعان ما يختفي ولتقول المرأة “لقد مات”، ولتستدرك بعدئذٍ قائلة “كيف لابني أن يموت وهو لم يولد”، بينما يصف داوود علاقته بتلك المرأة بأنه مشدود إليها بحبال غير مرئية وفي كل عقدة فيها موت، ولعل معادل ذلك بصرياً وسردياً سيكون المكوّن الرئيس للبنية الشعرية التي تأسس عليها الفيلم، فداوود يأخذنا في رحلة طويلة زمنها الافتراضي يوم واحد لكنه يعادل العمر أو الدهر، وكل ما يبحث عنه هو الحب، فإذا بالموت في كل مكان.
قد يبدو كل ما تقدم غامضاً، بما يدفع القارئ ربما للشعور بأنه حيال لغز أو ما شابه، لكن الأمر ليس كذلك أبداً، إذ إن طموح بايداروف ماثل في تقديم فيلم شعري على الصعيد البصري والسردي وصولاً إلى النص والحوار، مع الاستعانة بعناصر نثرية لها أن تكون ماثلة في كون الأحداث تجري على الطريق (فيلم طريق). وليحقق هذه الشعرية، فإنه يوظف كل أدواته في إحداث انزياحات في الدلالة المرئية في الصورة، من أجل الوصول عن طريق الاستعارة والمجاز (كما في الشعر) إلى معنى ثان للأشياء، وأطياف أندريه تاركوفسكي وعباس كياروستامي ونوري جيلان، حاضرة في بناء المشاهد ومواقع التصوير واللقطات الطويلة.
تنطلق رحلة داوود بإقدامه على قتل رجل يوجه شتيمة للمرأة التي تكون برفقته، وعليه يكلف ما يبدو أنه زعيم عصابة أو ما شابه ثلاثة شبّان باللحاق به، ويحصل كل ذلك على نحو سريع، وبأسلوب يشتت ما تكون عليه المطاردة بقصد إحداث انزياح على صعيد كونها فعلاً يراد به القبض على داوود، وليظهر أولئك المطاردين أشبه بشخصيات من صنيعه، من صنيع مخيلته ربما، أو أنهم يتحولون إلى ذلك، وهم كلما توصلوا إلى مكان كان فيه داوود، يكون هذا الأخير قد غادره، فيتصل أحدهم بالزعيم ويروي له ما حصل، وهو في الوقت نفسه يعيد ما رأيناه وسمعناه.
في مسعاه الأول للهرب يلجأ داوود إلى زريبة فإذا به يصادف امرأة مقيدة، تصدر أصواتاً غريبة، إلا أنها تعانقه كما لو أنها على موعد معه، وحين يكتشف أمرهما رجل تنقض عليه تلك المرأة وتعضه كما لو أنها حيوان مفترس، ولنتبين أن هذا الرجل هو والدها وقد قام بحبسها وتقييدها لسنوات بعد هرب أمها، وقد عضها كلب منذ عشرة أيام وأصيبت بالكلب. ولينتقل في رحلته إلى “مراقبة الطريق” التي لا نراها إلا بلقطة بانورامية لمرج أخضر فسيح لا شيء فيه سوى شجرة معمرة هائلة الحجم، وليس بعيداً عنها تجلس المرأة مديرة ظهرها للكاميرا إلى جانب الطريق، يسألها داوود شربة ماء، فتقول له لماذا أنت مستعجل تعال واجلس إلى جانبي، وتحكي له كيف أن زوجها مدمن على الكحول وكلما عاد إلى البيت يضربها، ثم يتوسد رأسها كتفه، وحين يظهر هذا الزوج ويسعى إلى جرّها إلى البيت تقدم على قتله.
في استعراض قصتّي المرأتين سالفتي الذكر، يمكن أن يتضح السياق السردي للفيلم، حيث يجاور الحب الموت ويمضيان يداً بيد على امتداده، والمرأة دائماً ضحية الرجل سواء كان أباً أو زوجاً، وصولاً إلى الأخ مع امرأة هاربة من زفافها لأنها لا تريد الزواج من رجل فرضه عليها أخوها، وصولاً إلى الابن ونحن نرى امرأة تتمدد عارية في قبر وهي على قيد الحياة بانتظار ابنها ليقوم بتغسيلها ودفنها، ولتمسي تلك القصص فصولاً في بحث داوود عن الحب أيضاً، وما يفصل بينها اللازمة المتمثلة بتلك المرأة المنقبة، والتي ما أن تقول “أصبحت مراقبة للطريق” حتى نرى قصة تلك الجالسة إلى جانب الطريق، وعندما تقول “لقد أصبح ثوب زفافي الأبيض بلون الدم” نمضي مع قصة المرأة الهاربة من زفافها، وليحوّل بيداروف النقاب إلى أداة تعبيرية، مؤكداً على دلالته من جهة ومحدثاً انزياحاً في تلك الدلالة من جهة أخرى، فمن ترتديه هي المرأة التي لن يحظى بها داوود، فهي غير مرئية ومتخيلة، فهي تمثل جميع نسوة الفيلم، اللاتي لا يجدن النجاة من العسف والظلم إلا بالموت.
“احتضار” هو ثاني أفلام هلال بيداروف الروائية الطويلة بعد “على تلال لا اسم لها” إنتاج عام 2018 وقد ترافق هذا الأخير مع تقديمه في العام ذاته فيلمين وثائقيين طويلين هما “عيد ميلاد”، و”يوم في سليم باشا”، كما أخرج عام 2019 فيلمين وثائقيين آخرين هما “حين أينع التين” و “أم وابن”.
—————-
عن موقع “النهار العربي”